يوسف طراد
رشق #دريد عودة الظلمة الدامسة بحبر الوعي، حين تجهّم وجه القمر، وانهمرت الدموع من الثقوب السوداء حزناً على الإنسانية. فكان ديوانه “يومَ بكى الله” أفقاً محموماً، كرقعة مُرقّشة بريشة تنزف ألماً
دُفنت الأوطان من دون مأتم، ولم يصل هواة الدم الكرنفالي إلى انبلاج الفجر، وعلى امتداد الصّدى تردّدت أصوات المغدورين فوق التلال المتهادية نحو الشمس، فكان بوح في أول الديوان: “الآن أكتفي بترانيم الأضداد/ ترانيم العصر الآفل/ المغسول بالدم كشمس الغروب”
هل عقل الشاعر، كالحنطة التي تراقص النار شعلةَ تضحيةٍ وفاءً لكسرة خبز، تسدّ رمق جائع يختبئ في الليل، من عاصفة رعدية منتظراً صباحاً واعداً؟ “سياطُكم نار/ سلامي نور الشمس/ صوتُكم رعدٌ فاجر مكفهِرّ/ صوتي برقٌ وفجرٌ”. وهل وَجَدَ الشاعر الإيمان الشارد في جريان الدم ولوعة الحياة، والشمس ترقب أعقاب الأوطان المرصودة لأنياب الأفاعي في صحاري العقول الجدباء؟ “تعال إلى وُضوء الشعاع/… / فما وُضوء الدم إلّا/ قَطْع العُروة الوُثقى”.
هل الخوف من رحمة الأديان، أو من سياطها، وقد شخصت إليها عيون الزمن؟ فيا ويح!! في المرتجى أيُّ غدٍ، لشعبٍ، كان استعمار الفتاوى فيه نقمة أبديّة، تغلي بصدر كلِّ مؤمن بالحق؟ “أهكذا أراد الخالق خليفته في الأرض/ قامة تخاف ظلَّها!/ أهكذا أراد نفسه/ سوطاً، فزّاعة، خيالَ مآتة!”. هل يصبح الوغى عيداً، وهل تسع الأرض ربيب المجد ولو احتلّها قريبٌ غريب؟ “فلنكن الأرض/ ليصير الله فينا بجمال قوس قزح”.
كيف راحوا يرقصون على الضحايا، وتبشيرهم يواكبه نحيب؟ “كفَّرتني/ قلت إنّي أرى الله في الحجر والشجر/ وأنت تراه في الكتب/ كتابك غدا لوحاً من صخر/ فمات الله في قلبك”. هل يا ترى، يرى السّيّاف اللون القاني أخضر، ويتوب لحظة تدحرج رأس الضحيّة بين “القَطْع والنّطْع”؟ فلماذ يقتلون مؤمناً ولماذا يظنّون أنّ في فعلهم طيباً؟ “من جلدي/ حِكْتُ نَطْعيَ الأحمر/ تعال، بظلّينا نَحوك/ السندس الأخضر”. إلى متى يستمر رعبنا يسيطر على صلاة فجرنا؟ أيتها المأساة، لماذا أسقطتِ الشمس جثة أمام القمر، وجعلتِ الجهل يحتضر ولا يموت؟ “تتساقط الجثث وتُطَقْطق/ في مسبحة الشيخ/ أين أنت يا الله؟/ أتُراك تُسبِّح أيضاً؟!”.
من “حروب الآلهة” البلاء وسوء المصير، ومن “وُضوء الدم” الحزن والنحيب. مع من تتنازعون على السماء، فالصغار لهم ملكوت الله، والكبار لا يأبهون إلّا لملكٍ على هذه الفانية، “تحمل سيفك كمعلّم قضيبه تحت السِّنديانة/ ممنوع الكلام ونحن نسْخَر/ ونُقَهْقِه في الخفاء/ كتلاميذ تحت سنديانة إلهك القديم/ تريدنا بكماً،/ دَعِ الصغار يلعبون”.
هل تعلم أيّها الشّاعر، أنّ كلّ من يكتشف طريق النور يُقتل؟ “هايْبِيشيا” اكتشفت مسار الأرض الإهليلجيّ حول الشمس فـ”خَجِل الآلهة أمام موتها/ خجلُهم بات حمرة الغروب”، هذا ليس من “نَكَد السماء” بل من وكلائها. “هايبيشيا” ملهمة سنتيوس القيرواني الذي قادته تعاليمها إلى حياة مسيحية حقيقية، وأصبح أسقفاً، وذلك يدحض مقالات عديدة عنها وعن إيمانها بالوثنية؛ هل كان رهبان الرهبنة البطرسية الذين قتلوها، يعلمون بأنها كانت تؤمن بالربّ عن وعي وإدراك لا تلقيناً من دون تفكير؟
“اذكرْني ولا تنكرْني قبل صياح الديك”، لا صياح لديك على هذه الأرض، لأنّ من يوقظ الناس يُذبح؛ لا يُسمع إلّا “زغاريد الدم” بأمر من “عقرب السماء”. فأصبح رجالنا معقَّمين، ونساؤنا كسيحات، وأطفالنا خرساً لا يبكون. هل يلتقي الخطّان المتوازيان في نهاية الأزل الذي لا نهاية له، وهل يندمج “النور والظلمة” في حقول الغبطة الربانيّة؟ “فالسعادة دخول الظلمة في مجد النور/ حينها أقف إلهاً بين الآلهة/ أغدو إنساناً”.
للقصائد صواب البوح القادم من خطى الكلمات، والصّمت من الخوف مدوٍّ في سكينة النفوس. والشاعر يعزف “لحن الوجود” على إيقاع رحيل قوافلَ إلى مثواها في الرماد. المحبّة لا تنتهي، والمؤمنون يحبّون آلهتهم من دون رؤيتهم، فهل الملحدون وحدهم سائرون على طريق الإنسانية؟ “وشوشتني السماء/ أحبّ الملحدين أكثر من المؤمنين/ فهم سيجدون الله يوماً/ أمّا المؤمنون فأضاعوه/ ومن أضاع شيئاً لا يلقاه ولو…”.
لا تصدحي رثاءً أيّتها الأقلام فالأوطان لم تمت، إنها تحلم بالمجد الموصول من جميع أطرافه بالمفرقعات الناريّة؛ فالفرح بالمفرقعات يصل إلى أفئدة الصغار، ويبعث البهجة في نفوس الكبار، “قلمُ رصاصي في وجه رصاصكَ/ واعلمْ: رصاصك يخترق الصدور/ لكنه لا يصل إلى الأفئدة”. هل في “نفحة… الموت” موت الوطن؟ “سمعت طائر الفينيق هذا الصباح/ …/ السماء بلا أجنحة/ سقَطَت بين أرجل المُصَلِّين/ فلِمَ أطيرُ ثانية
هل العسل شرنقة النحل، تنعتق منه إلى ربوع الشمس والمدى، لتبحث عن ضياء الله، وتفرد جناحيها فرحاً وهي ترتشف العبير السارح على امتداد الحقول؟ “النحلة تصنع عسلاً كثيفاً من الأثير/ من عبق اللَّيلَك من فوح الياسمين من عبير/ الخُزام من بَوْح الورد من أجنحة الرحيق/ تؤمن بغيبيّات السماء/ وكم غابت عنك أشياء!”. فالفلسفة “معلّمة الأمم: نشيدٌ للنور”، هي الامتداد الجيني للحبر الذي نقرأه، بحكمة شيخ وطيش طفل وحلم كوكب. فهل هناك فرق بين بحر وصحراء بغيابها؟
نعم أيها الشّاعر، “لا يولد الله تحت المقاصل” لأنّه لا أحد يستطيع تأريخ وجود الكون. فالرب موجود قبل العدم وقبل الانفجار الكبير. فإن كان نيتشه ملحداً بطبيعة الحال، فهو لم يتكلّم عن ولادة الله، بل عن موت فكرتنا عن الإله، وإن كانت الفلسفة العلمانية المتزايدة في الغرب أدركت قصد نيتشه بأن الإله لم يمت فقط، بل إنّ البشر قتلوه بثورتهم العلمية، ورغبتهم في فهم الحياة بشكل أفضل، فإنّنا قد قرأنا في هذا الديوان إدراكك الأكيد بأنّ الجهل قد قتل الله. وها هي الهوّة تتسع بين الشرق والغرب، كاتساعها بين العلم والجهل. فهل هذا ما قصدت بقولك: “أيّها الناس إنّ الله قد مات”؟ وهل المشترك بين قصدك وقصد نيتشه، أن موت الرّب من فعل وكلائه على الأرض؟
لم يخش دريد عودة في ديوانه “يومَ بكى الله”، سوى ذاك الداعشي المزروع في نفوسنا، وهو يجوب أفكارنا ببذلة التقوى، وأناقته مفرطة في الأفكار المثالية. فما أروع قبائل مجاهل القارّة السوداء، العراة من الدجل الديني والوجل الإنساني
تخال كلّ نقطة حبر من هذا الديوان، وكأنّها تسقط من السماء!!! فهل هي دموع الله؟