سوسن جميل حسن
يقول الشاعر والباحث شربل داغر في الفقرة الأخيرة من كتابه “الخروج من العائلة” الحائز على جائزة ابن بطوطة/ أدب اليوميات في دورتها التاسعة، والصادر حديثًا عن دار المتوسّط: “بناء السيرة أتبرمُ منه بدوره، إذ يقوم – كما هو سارٍ ومقرٌّ – على الأمانة في الاعتراف، فيما يتكفل كاتب السيرة، واقعًا، ويتدبر، ويعالج البناء، بما هو صالح فنيًا للسرد”
لهذا يمكن طرح السؤال: ما الذي يعنينا في السيرة الذاتية بالدرجة الأولى؟ هل حياة كاتبها، كما يسعى الكثيرون لملاحقتها في كل مراحلها، والتفتيش بين الأسطر عمّا يشي بما تستّر عليه الكاتب، وتسقّط أخبار ماضيه وتجاربه بكل حمولاتها وكيف مشت وما انتهت إليه؟ أم ما يُفترض أن يعنينا هو السيرة كنصّ ينتمي إلى جنس أدبي محدّد؟
ما حاوله داغر في كتابه هذا، أنه لملم شذرات، وربما صورًا ممّا استبْقتْه الذاكرة خلال سيرورة حياته، محاولًا، بكل شفافية وأمانة ،أن يعرضها باللغة والكلمات، فيستبعد من القراءة البحثَ عن انتقائية الأحداث من دونها، إذ فيها ما يكفي من صراحة ومغامرة في دخول المناطق المقفلة اجتماعيًّا، وشديدة الخصوصيّة أحيانًا أخرى، فيرفع هذه الشذرات من العتمة إلى النور، مواجهًا نفسه بما آل إليه، هنا والآن، شربل داغر المفكر والباحث والشاعر، صاحب المشروع الذي أضاء ركائزه الأساسيّة في هذا الكتاب، في نص مشغول بلغة جميلة وأسلوب رشيق، فهو، إذا نحّينا الشعر جانبًا لما له من خصوصيّة لديه، انصرف “إلى ما يعني العمومَ في خطاب مثقفيه والثقافة”، كما إلى ما يسمّيه “ثقافة العتبات”، في ثلاثة مشروعات تأليفيّة تبحث في التكوين المتأخر لهذه الثقافة، في تحديد “بدايات” القصيدة الحديثة، و”بدايات” الرواية العربية الحديثة، و”بدايات” اللوحة العربية الحديثة. أمّا الشعر، فهو “حديقته السرّية”، ويبقى على حدة “في حياة كتابيّة، تُتيح للمكنون، للفردي، لعالم الأحاسيس أن يخرج من ظُلمته إلى جلاء فاضح”، إلّا أنها، كما يصرّح، “تبقى سيرة غامضة، خافية، تشير إلى أحوالي، من دون أن تكون اعترافًا، أو بوحًا، أو استعادة لما جرى”
صباح الخير من بيتي القروي. بهذه العبارة الحميمة يستهل كتابه الموزّع على مقاطع سرديّة، كل مقطع يحمل عنوانًا، يصلح أن يُقرأ بمفرده كنص أدبي، ما يُشعر القارئ بأنه أمام بوح من صديق، فيباشر القراءة بمحبة تتوطّد مع الاستغراق في القراءة. وهو، فيما لو بدأنا بدخول عالمه من عتبته الأولى: العنوان، فإن الخروج من العائلة كان التوق الذي أضمره في نفسه منذ بداياته، لكنه لم يتحقّق فعليًّا إلّا في مرحلة صيدا، الفترة الواقعة بين حدثين مهمّين، هزيمة حزيران، وموت جمال عبد الناصر، حيث كان في مرحلة الطلبة قد انخرط في الغيم الاجتماعي السائد إن صح القول، لكنه، باستعادة تلك الفترة يحاكمها بعد مسيرة الحياة الحافلة من دون أن يبخسها حقّها
يمرّ الإنسان، منذ تكوّنه بثلاث مراحل من الفطام، أولاها عند قطع حبله السرّي، تجربة قسرية لا يملك ذاكرة عنها، وثانيها فطامه عن ثدي أمّه، يكون قد بدأ التمييز بينه وبين المحيط وتشكيل رموز وعيه، لكن الكبار الذين يقومون برعايته يعلّمونه، يحدّدون له مساراته وأنساقه، “حين أتذكر طفولتي لا تحضرني صور عديدة، ذلك أنني كنت في هذه الطفولة غالبًا “هو”، أي الشخص الذي كانوا يريدونه، يصنعونه أو يدفعونه دومًا إلى عدم الظهور إلا صامتًا، طائعًا… كنتُ في هذه الأوضاع أنسجم مع التطلبات، أنضبط بها، أو أنني، حين لا أنصاع لها داخليًا، كنت أشرد أو أنتقم داخليًا”
أمّا المرحلة الأخيرة، “الخروج من العائلة”، فهي الفطام الحقيقي، وهي أصعب المراحل، وأكثرها مغامرة، لكنها الأغنى، تحتاج مقدرة عالية على مواجهة اليقينيات والتعامل معها، بين جدال أو تحطيم، إنها الأسئلة التي تعمّر الحياة، وليس الإجابات، التي كلّما اخترقت الوعي، أطفأت جذوة ما في العقل والوجدان، أشرسها اليقين، هي مشوار إدراك الأنا وهي تتكوّن. الخروج من العائلة بمثابة خروج اليرقة من شرنقة الحرير بادئة مسيرتها نحو اكتمالها وفي لحظة ما قد يُطرح السؤال الأهم على النفس: ماذا أريد من الحياة؟ سؤال الحياة مربك أكثر من سؤال الموت
“الغريب أنني حينما كنتُ أكتب هنا، كنت قلما ألقي نظري إلى النافذة وما يقع خلفها وما يصلني عبرها، فيما أصرف لها اليوم نظري وسمعي وهاتفي”، عندما أوحت له قضبان النافذة ، ربّما، بالسجن، أو ربّما بالخارج، انتبه إلى نفسه، إلى أولئك الآخرين الذين كانهم وتناوبوا على تكوينه إلى أن أصبح ما هو عليه هنا والآن، هذه عتبة مهمة لدخول هذه التجربة حتى لو كانت الذاكرة خوّانة أو متواطئة أحيانًا، لكنها تجربة غنية وكاشفة، قد يكون اختار ما أملته عليه رغبته الخفية أو حسّه النقدي بما يخدم النصّ، وهذا أمر جيّد، إذ من غير الممكن سرد كل ما يخطر في البال، “لعلّ الهواء أدرى، أو الرغبة الخافية… لعلني بتصرف غيري”
يفتتح زمن الكتابة من لحظة معيّنة إلى لا تعيين، “أضعُ صورة أمامي، ممّا تبقى، وأكتب ابتداءً منها. أو أتخيّل صورة، فأتعقّبُها، وأتبعُها، بخفة المتزلّج وأسرعَ منه”، أليس في هذا استدعاء لخيال متخفٍّ بهيئة ذاكرة، ويمنحها جماليّة الكشف؟ يبني عالمًا آخر، عالمًا متخيًّلًا لكنّه حقيقي بقدر ما كان متحقّقًا، يبدو كما رسّام يمسك الريشة ويخربش أول ضربة على بياض اللوحة، ثم يأخذه الخط المتشكّل، يمسكه من يده ويرسمان اللوحة معًا، فقط لمُتعة اللعب حتى يرتوي شغفه، “أما أجمل الصور، فهو مِمّا يَخرج من ثقب لفظ، أو من انفراجة ابتسامة، أو – بخاصة – مِمّا أجدُ نفْسي فيه، فأتبعُه بسرعةٍ تفوقُ قفزاتِ “طرزان” في الغابة.. إذ هو يلاعب الزمان والمكان”
نصوص أدبية غنية، بمثابة توثيق اجتماعي ثقافي تاريخي للبنان في العقود الأخيرة، والتحوّلات التي طرأت عليه في كل مناحي الحياة، حتى المكان يبدو ركنًا أساسيًّا في السرد، وقد اغتنت النصوص بأسماء الأمكنة والشوارع، ووصف المدينة والقرية والتحوّلات التي طرأت عليهما
“الخروج من العائلة” أوسع من سيرة ذاتية، أو يوميّات، بل فيه حدّ كبير من السيرة الفكرية الإبداعية، فيه مفاصل زمنية، يمكن التقاط تكوّن الشاعر خلالها، ورسم لتجربته الخاصة، إحساسه باللغة ومفهومه عنها ومكانتها لديه، “نعيش في عالم أتينا إليه بعده، لكننا نجحنا بعده في نظم لغات أبجدية، فيما يتبادل غيرنا من الكائنات لغات أخرى”، بل أيضًا ملامح تكوّن شخصيته كباحث، فهو انجذب إلى عالم النمل مثلًا، “لطالما اعتدتُ على مرأى النمل، الذي سحرني، في طفولتي، في سَيْرِه الصابر، وفي عمله الدؤوب، في خط أسود متتابع من دون أي ضجيج”
كذلك يمكن تلمّس علاقة ما بالمكان تستبطن مفهومًا فلسفيًّا خاصًّا، مثلما ينضوي على جماليّاته، “أخالني أحيانًا، أمضي في البيت، في حجارته، أستقصي فيه ما كانت عليه جذور لا أدركها، وفيها سيرتي الخافية”، فالمكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تميز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية، كما يحكي غاستون باشلار في “جماليّات المكان”
لطالما لمسنا لدى شربل داغر، الشاعر، هذا النزوع نحو “زيارة قصائده” مثلما لو أنه يريد التعرف إلى نفسه، فإنه واعٍ تمامًا في يوميّاته، التي بين أيدينا، بهذا النزوع في محاولة البحث عن الآخر الذي هو “أناه”، “النكهة، الحساسيّة، التميّز”… بينما هو غيره، كما أرادوه، وقد عبّر عن ذلك تعبيرًا صريحًا: “لا أجيد اقتفاء ما جرى، ولا استنطاق الغياب في الأثر، ولا إجراء محاورات مكفولة بين الصورة الماديّة والصورة المودعة في الذاكرة. ما يكفيني، ما يعنيني، هو ما تشيعه الصورة فيّ، أمامي، أو في خاطري، من مشاعر، ما دام أنّها هي التي تجدل الأحداث والتعابير”
ومثلما ابتدأ بالصورة لينسج محكيّاته الثرية، فإنه ينتهي بها، “يبدو أن الحياة أحرقتْ وأتلفتْ الكثير من الصور، أو أن الحياة مضتْ وحدها من دون كاميرا… ألهذا تراني أتعجلُ وأستكمل في الكتابة ما تبدد مني في العبور؟”، ربما في هذا الاشتباك بين مفهوم الصورة ومفهوم اللغة لديه، انبنت شخصيته الإبداعية، متعدّدة المشارب، غزيرة الإنتاج
الخروج من العائلة نص أدبي بديع، ينوس بين الرواية واليوميّات، يبدأ زمن السرد فيها بلحظة جلوس الكاتب إلى مكتبه والتماع رغبة الكتابة من دون وجهة، ” حيث أقتعد الجلسة ذاتها… من دون أن أعلم وجهة الكتابة التالية”، ويعود إليها بعد استرجاع تاريخ طويل حافل بالحكايات والشخصيات، والأحداث المتنوعة والأمكنة المتعالقة بها، يمسك الخيوط بخفّة ساحر يلاعب الزمان والمكان بأسلوب رشيق ولغة طريّة، لينهيها “يبدو أن الحياة أحرقت وأتلفت الكثير من الصور، أو أن الحياة مضت وحدها من دون كاميرا… ألهذا تراني أتعجّل وأستكمل في الكتابة ما تبدّد منّي في العبور؟”
ينتهي الكتاب بصور بالأبيض والأسود، للعائلة اعتبارًا من الجدّين المباشرين لجهة الأب والأم، ثم للكاتب في مراحل عمرية متتابعة، سواء مع العائلة أو بشكل مفرد، في مرحلة اليفاعة والشباب الباكر، مع بعض الوثائق الحميمة، كأول كشف علامات مدرسي عندما كان متفوّقًا في الصفّ الأول، أو بطاقة والده كموظف في شركة الخطوط الحديدية، وغيرها