ليلى تباّني
جبران نصف الحكمة ونصفها مالك …و كأنّي به يقول: ثق يا مالك أنني سأرحل وأنت بقيتي في الجزائر
الحق يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به ورجل يفهمه. و كأن الرجلين تقاسما في الفهم والإدراك والتطبيق والتقييم مصنّفة بلوم في فهم النصفية والوسطية وشرحاها وأوصلاها بكل دقة ودلالة …..و كتباها في النهاية كي تتوارثها الأجيال ، لكنها لم تفهم ( الأجيال)أن ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب و قد كانا كلاهما قلبي أمتهما النابضين وعقليها المتدبرين
لعلّ من يطرق باب اللفظ واللّغة يجد شبه مغالطة بين ترادف كلمتي الوسطية والنصفية ، التي أدت بدورها إلى إستغلال الخلط المتعمّد في المفاهيم لقضاء مآرب وإيجاد مبرّرات الخطأ والسلبية .وبين الوسطية والنصفية تداخل مفاهيمي استغلّ للكيل بمكالين الأشياء من نفس الصنف.غريبون هم البشر لذا يقال : ليست حقيقة الانسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله. و لأنّه يقول ما لم يشتهي أن يفعل يلجأ الى استغلال المغالطات اللّفظية ليَدُسّ فيها ما لا يجب أن يكون .فكل من يخطئ في موقف أو سلوك أو قول يهرول نحو لفظ الوسطية التي هي في الحقيقة نصفية وسلبية وتنصّل من مسؤوليته نحو أفعاله وأقواله
يقول البارئ عز وجل : ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً…”آية 143 من سورة البقرة . لست مؤهّلة للتفسير وله أهله والاطلاع عليه متاح للجميع ، لكنّ المؤكد من دلالة الآية يوحي أن الوسطية هي الاعتدال في كلّ شيء فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا إهمال حتى أن المفهوم ذاته ذكر في آيات أخر من القرآن وعلى سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى :” وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ” 29 سورة الإسراء. نستشف من هنا أن غاية الدين هي الوسطية والاعتدال والذي هو مؤهل الأمة من العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين أو موقفين قرارين، مهما كان موضع هذا الوسط (الذي تمَّ اختياره عمدا)فهو النصفية التي تطرق إليها كلّ من جبران وابن نبي
لقد خاض الرجلان في قضية “إنسان النصف” وهما من دعاة التّجديد باستماتة وشجاعة تدعو إلى الإعجاب والوقوف إجلالا لآرائهما ، فمن ثمّ تراهما حين يكتبان عن الحضارة والقيم يتدفّقان تدفّق البحر إذ تتدافع معانيهما تدافع الأمواج ، وتزدحم أفكارهما ازدحام اللّجة ، ومن هنا تَغمُضُ معاني العبقريين على بعض من لم تشرق حقائق التنوير على فكره وروحه
من هو إنسان النّصف و نصف الإنسان يا ترى ؟ هل هو ذاك الذي يقبلُ بأن يعيش بنصف قلب ونصف دين ونصف موقف ونصف صديق ؟
قال جبران في نصف الإنسان : “لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ لأنصاف الموهوبين، ولا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، ولا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، ولا تحلم نصف حلم، وتتعلق بنصف أمل. إذا صمت فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت تكلم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت. إذا رضيت فعبر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت فعبر عن رفضك؛ لأن نصف الرفض قبول. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها. النصف هو ما يجعلك غريبا عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء، النصف هو أن تصل .. وأن لا تصل، أن تعمل .. وأن لا تعمل، أن تغيب .. وأن تحضر. النصف هو أنت عندما لا تكون أنت؛ لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت .. من تحب ليس نصفك الآخر … هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه !!! نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أيّ مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز؛ لأنك لست نصف إنسان .. أنت إنسان .. وجدت كي تعيش الحياة . وليس كي تعيش نصف حياة ……. ” (من كتاب نصف حياة ـ جبران خليل جبران)
صرخة عميقة من المشرق ويردّ الصدى من المغرب فيقول مالك بن نبي في إنسان النّصف : ” إفساد النهضات يكون بإنتاج إنسان النصف إنسان النصف و هو الإنسان الشديد الإلحاح بطلب حقوقه ولكنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته أو من ثقافة المتاح المتوفرة بين يديه ! يذهب للمدرسة ليمضي الساعات فقط وهمه الأكبر الحصول على تلخيص أستاذه أو المادة المطلوبة للامتحان دون أن يكون هدفه التعلم! يذهب للعمل ويقضي ساعاته بأي طريقة المهم بالنهاية أن ينقضي الوقت و يعود لحياته ويحصل على معاشه! لا يدرس كطالب ولا يعمل كموظف و لا يبدع في معمل و لا يبتكر في متجر ولا ينجز في مشروع! هو باستمرار إنسان النصف .. يطالب بحقوقه ولا يقوم بواجباته……”
الأمة كيان وحتى يصلح كيانها كان من الضروري أن يصلح كيان فردها ، فجبران من وجهة نظره يخاطب الفرد ويقول بنبرة صادقة.. ما فائدة الحياة التي تجعلنا نعيش كالأوراق المتطايرة في مهب الريح؛ لتقع في آخر أمرها في منتصف طريق فيكون بذلك تائها وضالاّ مضلاّ…….؟لأنّه رضي أن يعيش بالنصف وهو التوّاق إلى الكمال أي نعم لن يطوله لكنّه بإمكانه مقاربته . فمن يتوخى الكمال عليه يؤسس حتى يعلو ومن يريد العلا عليه بكمال الاستراتيجيات والشروط حتى يحقق كمال النتائج .أن يوفر تمام البذور حتى يحصد كمال الغلال
ليؤكد مالك ابن نبي نفس الفكرة ويعزّزها يقينا ، بأنّ نهضة الأمم لن تتحقق إلاّ بالتخلص من إنسان النصف الذي يساوم بالنصف الفارغ ليظفر بالنصف المملوء أو يقدّم المهترىء وينتظر في المقابل المتين وهو ما يؤدي إلى تهاوي الأمم ….فيجعلنا نتشوق لتذوق نصف الكأس الفارغ .ويبرر تقصيره بالوسطية ومسك العصا من الوسط بالتغليط والنشكيك
والحقيقة ان الوسطية تختلف كل الاختلاف عن السلبية والنصفية والتردد والتملق والنفاق ،فالأنصاف ليست خيارات متاحة يمكننا إكمالها أو استبدالها متى ما شئنا