كلمة العدد
وليمة الحبر
إخلاص فرنسيس
إخلاص فرنسيس
أنا القلم السيّئ الحظّ في يد مَن لا يعرف التمرّد،
وأنا الحبر في وريد من عشق الإنسان والكتب، الألوف يشيّعون القلم إلى مثواه الأخير، يلتّفون حول نعشه الأبيض، يلقون النظرة الأخيرة على حبره المسجّى على الورق، القلم الذي سكن وجدان الناس يومًا، وخاض عنهم حروبهم، ملتفعًا بالبياض الذي لا يموت، يمدّ لسانه الأزرق متهكّمًا على كلّ من حوله، يسخر من أصابعهم التي تحاول أن تطال قامته، لتكسرها، يتصارعون على صفحات الحياة، يتسابقون على التسلّق، يشربون نخب الانتصارات الزائفة.
طوال عقود كان وما زال القلم دواء القهر، وسلاح العقل، بأيدي مَن خالفوا سنن النمطية، ونسّاجي الرؤى العصية على الخيانة، وسكين بيد من لا يحسن سمة الإخلاص، يلتفّ حول أعناقهم حبل صدق، فتفوح منهم رائحة العفن، وتفوح منه رائحة الياسمين.
أجيال وأجيال تترى تحتشد خلف هذا القلم، لعلّهم يخترقون سقف الإبداع، وقلّة مَن وصلوا متهيبين أمام جبروته.
إن كنت مسكونًا بالخوف فاعدل قبل أن يلتهمك الحب، وتغرق في دوّامته، وإن كنت مسكونًا بالإنسان فأجزل العطاء، واتبع الحرية، واستقِ من فيضه الأفقَ المعجون بصلصال الأمل، وكن سفيرًا لطيف السجايا، ودمعة الطفولة المنتشلة من الأنقاض، وصلاة ناسك في مضمار اليقين. شذّب أصابعك المجبولة بالإنسانية، وحطّم سلاسل الأنانية، واصنع من الغيوم عباءة مرصّعة بالنجوم، بالاختلاف والائتلاف، بالمغامرة والشغف، وبكلّ أشكال التضاد.
أصغ لصوت الريح، والإيقاعات الخارجة من كلّ ما يدور في فلكنا، من حفيف الشجر ومن صوت السكون في الحجر، موسيقا ممتدّة إلى ما لا نهاية.
تأرجح على دروب الدهشة، واخطف الأنفاس من رئة الكائنات، وليكن الإنسان قِبلتك السامية. قل سأحبّك أيها القلم، وأشرب من حليبك، وأسقي العطاش على ضفاف الحلم.
سأقلم أظافر الموت، وأشتعل وأشتغل شعلة في منارة الإنسانية في قصيدة فولاذية، وهديل صفصافة ممتلئة بأغاني الطيور، وأحلام الرعاة، وجديلة رمادية على كتف عجوز وحيدة.
لا جدران تحدّ ريح الحبّ، والأحلام المجنونة، يكفي أن تضغط على زناد قلمك، ليجري نهرٌ من حبر أخضر، تُروى وتروي، تُحِبّ وتُحَبّ، تموت وتُحيا، وتحيي الموات، ولك الحياة.
إنّه القلم الذي به نسطّر العالم بضياء الأصغرين (القلب واللسان)، وما عدا ذلك قبض ريح.