اخلاص فرنسيس
آب عام الفين وعشرين
هذا العام الذي توالت فيه الحرائق واحدة تلو الأخرى، تضرب أطراف الكرة الأرضيّة الأربعة، حروب ودمار وأوبئة، وكأنّ قوى الشرّ تكاتفت على الإنسان، أو لعلّ الأرض تعبت من البشر الذين عاثوا فيه أبشع أنواع التعذيب. نعم إنّ الأرض تئنّ، والبحار تثور، وتتوالد الكوارث واحدة تلو الأخرى. بيروت عروس البحر المتوسط وقبلة الشرق، ملتقى الفنّ والأدب والجمال، ملجأ كلّ مطرود ومنفيّ، وصدر رحب للاختلاف الثقافيّ والفكريّ
بيروت التي مرّ على ترابها، وتعاقب عليها الغزاة، ما زال ترابها يشهد عليهم. بيروت وطن الأبجدية، عاصمة لبنان الذي ينام الخلود في أرزه، وتكلل الهيبة جباله. الصبية ترتدي قوس قزح، وتبسط للريح وجهها، تناغي النوارس. حورية تنام إلى جانب حبيبها، البحر يداعب بأنامل الزبد الأبيض جسدها القمحيّ، تتدثّر بالشمس ضحكات الطفولة، رؤى الشيوخ وأحلام الصبايا والشباب، بيروت لا تنحني ولا تسقط، تنتحب وتحزن لحزن العالم، وتفرح وتضحك لفرح الآخر. بيروت أغنية فيروز وموال وديع وصباح، بيروت حكمة جبران، وطلاسم إيليا أبو ماضي، ومساء مطران، ولبنان إن حكى عقل. لبنان المجد ماجدة الرومي، ماذا أقول بعد الرحابنة والمفكرين وصانعي السلام، ما زالوا لغاية الآن أولادها يرفعون هامة لبنان عاليا أينما وجدوا، بيروت الأنثى التي غناها نزار، وكتبها درويش
آه، ماذا أقول والأبجديّة لا تسعفني؟ بيروت يا جرحاً في صدري، شهقة سيف خاصرتي، ودهشة لا تنتهي، وجع يتوالد في قلبي، وتنهد لا ينقطع
هل أكتب عن الأمّهات الثكالى؟ من يداوي جرحهم؟ ومن يرتق الفراغ الذي خلفه من رحلوا؟ هل أكتب عمّن تطايرت أشلاؤهم في عرض السماء، وكونت غيمة من مطر أحمر، وهطل ناراً، ونبتت شقائق نعمان، أم أكتب عمّن قذفهم هول الكارثة إلى البحر، فاحتضنهم الموج، وكان أحنّ عليهم من وطنهم
ماذا أكتب عمن دفنوا أحياء، وأسقطوا من سجلّ الحياة في ظلمة عمياء؟
بيروت، أيتها المحبوبة التي أهاب لفظ اسمها، سترها العظمة والجلال، ماذا فعلوا بك أيتها الحورية الطالعة من أرض لبنان؟ تسيرين نحو الأبديّة في هيبة مقدّسة، كيف لا وقد كنت ملتقى الأنبياء ومزار القديسين، خلبت عقول من مرّوا بك، وأصبحوا أسرى حبّك. آه يا بيروت، حين أنظر إليك أستشعر هذا السرّ فيك، سرٌّ استأمنته عليك الآلهة، تجلسين في خدرك في حدائق الحبق، تدمي أصابعك الورود. ماذا حلّ بك؟ كسيرة القلب أنا، مهيضة الجناح، يتيمة، القنوط ينتاب روحي، أناشد الربّ، تعال أنقذ من يد الشرّ بيروتي، كي لا يخنقها شرّ من يحكمها، انزع الشوك من بين ورودها، ونقّ حنطتها من الزؤان. أيتها الشمس دثّريها بوشاحك الذهبيّ، لملمي بقبلة دافئة دمعة سخيّة. ها أنا في غربتي، أتألّم عن بعد مصاب حبيبتي، وما صنعه الطغاة بها، تسود السكينة الخرساء والكآبة شوارعها، وتجول المحبّة في شوارعها تبحث عن قلب تواسيه، تراب غطى الأزقّة، وموسيقا الحزن تملأ الأجواء. مواكب المشيعين لا تنتهي، يولولون يملؤون الفضاء نحيباً. رفات في الأكفان، ورفات تحملها، أمٌّ تذرف دموع الأسى، وأخت تنادي أخاها، وعريس ينتظر حبيبة، وعروس تتّشح بأثواب الكآبة. ما أقسى دمعة رجل يرى أشلاء وحيده، خيّم شبح اليأس فوق بيروت، تلفظ أنفاسها الأخيرة، هربت طيور البهجة على صهوة الشرّ، وتداعت أركان المباني، وتأوّهت الريح تكنس الأنفاس صوب القبور المنسيّة. بيروت اليوم ثكلى، حزينة، تفترش المسوح. بيروت اليوم منكوبة، تنادي بنيها، كي ينقذوها من الشرّ، وينزعوا عنها القيود
انتفضي بيروتي الآن، ضميني إلى صدرك المملوء بالمحبّة، وارتدي ثوب الفرح، لا يليق بك الحداد، بنت الفنيق أنت، سليلة عشتروت، طائر العنقاء انتفضي من تحت رمادك، وانهضي، في جعبتك رسالة، هناك حبيب ينتظر، وشاعر ساهر، وهناك واجب وطني، انهضي، واسكبي في كؤوسهم خمرة الحبّ والحياة
عودي يا بيروت، وليعرش الياسمين على جدرانك وتفوح رائحة الطيب من شوارعك وبيوتك، وليسهر القمر مع عشاقك، عودي يا بيروت يا بلد العاشق
إخلاص اسمي. هل حقّا أنا هي؟ لا أعرفُني في خضمّ الوجع، تائهة منّي، عارية أقدامي تتشظى في شوارع بيروت، ألملم أحلامي التي مزّقتها الانفجارات، وأشلاء فستاني الأسود عاري الكتفين. أبحث عن طقطقة الحلق في كفّ طفل رضيع تحت الأنقاض. أمّي يصرخ من أنا، أنا من علقت قيثارتها على أغصان الأرز، ونفخت في الريح أنين الناي، وعصفت بالبحر، وقالت له: ترفّق، أنا من طالبت الشربين باللون الأخضر، وسكنت السنديان، وغنيت للعندليب، لينام حين يقلقه السهر
أنا من ابتاعت بخور الفينيقي وحرف العشق، وصدرّت الحبّ إلى العالم أجمع
أنا من كتبت نواميس وأسماء وكلمات الأغاني للبنان الأخضر
أنا من رقصت مع الفراشات، ونامت على الصخر حورية بوهج الشمس
أنا من حاكت أناملها قميص يوسف الملوّن، ونادت نرجس شارون قائلة: انطق
أنا من زرعت الياسمين، ورسمت بقلم المحبين كلمات العشق
أنا بنت بيروت، بنت لبنان، بنت الجنوب، أنا من تفتّحت على صدري قصائد الشعراء، وكتب الإغريق ملاحم الخلود