د. جوزيف ياغي الجميّل
الأديب والناقد المبدع د. جوزيف ياغي الجميّل يكتب عن نص لجميل الدويهي “الخبز والماء”: الخبز والماء ونجدة السماء
—-
الخبز والماء قصة أبدعتها مخيلة الأديب جميل ميلاد الدويهي. قصة تتساءل عن نوعها ولا تدركه. أهي قصة واقعية أم فلسفية رمزية؟
بدأت القصة ذات صباح”أصبحت”. والصباح انتهاء لمرحلة الليل والظلام. وهنا المفارقة الأولى في القصة: كيف يكون الصباح رمزا لنهاية الحياة؟
من رموز النهاية أيضا صورة الصحراء. والصحراء تعيدنا إلى مرحلة تيه العبرانيين، في صحراء سيناء. ذاك التيه الذي امتدّ أربعين سنة، قبل الوصول إلى أرض المعاد. بيد أن صحراء الدويهي كانت أقسى لأنه يعبرها وحيدا، ليس بصحبته إلا الذكريات
خرج العبرانيون إلى الصحراء بإرادتهم. أما خروج الدويهي فلا نعرف أسبابه ولا خفاياه. ما الذي أوصله إلى الوحدة، في صحراء الموت؟ أتكون الصحراء رمزا لوحدة نفسية، قبل أن تكون جسديّة أو مكانيّة؟ وما المقصود برحيل الأصدقاء حين شح عطاء الدويهي أو جفّ؟
جفاف الصحراء هو جفاف الحب، في ذات الكاتب. ولكن هل يجف الحب فعلا؟
الإنسان كائن اجتماعي، لا يستطيع العيش بمفرده، بعيدا من التفاعل مع المحيط
يقول طاغور في كتابه”سلة الفاكهة” إنه أعطى الكثير، ولكن لم تفرغ جعبته؛ لأن في قلبه الكثير من الخيرات والمحبة. فما الذي أفقد الأديب الدويهي كل زاد؟ وكيف تحوّلت أرض قلبه إلى صحراء، لا زاد فيها ولا ماء؟
يشبّه الدويهي الناسَ بالطيور التي تأكل حبوب القمح، من يده. وحين ينفد زاد العطاء تتركه إلى غير رجعة. وهكذا أصبح المسافر في غربة تيهه وحيدا، عطشانا، وجائعا إلى خبز المحبة وماء الصداقة
الصحراء في قصة الدويهي غدت رمزا للعقاب، أرضاً للعنة أزلية يسود فيها التعب والشعور بالخطيئة. ولكن، ما خطيئة الكاتب الرحالة، في أرض الندم والجرح والألم؟
الكاتب متألّم بسبب غربته عن أرض الأحياء، بعدما جفّ في جعبته الزاد، وساد الإعياء
ويسأل القارئ: ما أسباب جروح الكاتب الكثيرة؟
أيكون الشِّعر أحدها، أم سببها الأول والأخير قلّة الوفاء؟ لعلها جروح الغدر، وطعنات أيدِِ ملأها بالحَبّ والحُبّ فبادلته بالنصال والسهام
لعلها جروح صداقات منحها قلبه والأفكار، فنأت عنه، وأهدته الظمأ والشعور بنهاية الحياة. وهل أقسى على الإنسان من صديق غادرِِ قابلَ الحياة بالموت؟
وامتدّت الرمال، رمال النار والكبريت، في ذاكرة الرحالة في الصحراء. رمال امتدت إلى ذاكرته، فأصابتها بالتخمة، وأصابت جوفه بالخواء والدمار. إنها ذكريات الحياة في مواجهة الموت. ذكريات أشبه بخشبة خلاص حاول الكاتب المنازع التمسّك بها وسيلة للنجاة. ولكنّ رماله كانت متحركة غاصت فيها نفسه والذكريات بحثًا عن الموت المنقذ، بل طلبا لمعجزة ولا معجزات
وإذا الصحراء /الموت تصبح رديفة للغربة”لو كنت في مدينتي”، بل في الوطن لمات بين أهله والأصدقاء. ولكنه، كامرئ القيس، سيموت غريبًا، في أرض غريبة، بلا نسيبِِ أو قريب
في صحراء غربته لا ٱدمي يشفق على موته، أو يبعث فيه ساعة احتضاره الشعور بالعزاء أو الرجاء
في صحراء غربته موت محقق بلا أمل. تحته صحراء قاحلة جرداء، وفوقه سماء صمّاء. حاول أن يطلب نجدة سمائه، قمره، ولكن لا جواب. أيكون القمر قد جفّت شرايين محبته، فلم يعد يعبأ باستغاثته والنداء؟ وما رمز القمر، والنجوم؟
أيكونان تجسيدا لأبناء الوطن المغتربين الذين لم يعودوا يبالون باستغاثاته وحشرجات نزاعه الأخير؟
ما أقسى انتظار الموت، في النزاع الأخير!
إنّ ترقُّب الموت أشدّ إيلامًا من الموت نفسه، خصوصا حين يفقد الإنسان الماء والطعام، ويتحوّل الهواء، في رئتيه إلى عنصر ملوث وكئيب. ويسأل القارئ: ما العلاقة بين التلوث والكٱبة؟ وما الصلة بين الموت وغوص العينين في التراب؟
إنه الموت النفسي كما قلنا سابقا، وقد تحوّلت الذات فيه إلى صحراء، ذات أفق مسدود. وقد حاول الكاتب اختراق قبر صحرائه بطلب النجدة من السماء وعناصرها. وفي صورة القمر والنجمة استدعاء لظاهرة الإبداع المخلّص. ولكن بلا رجاء، أو هكذا خيل للكاتب المنازع
وحين حلّ الظلام، على روحه المنازعة، ظهر قبس من رجاء، في كوة ليل الغربة والموت. أتاه المنّ والسلوى، في لحظاته الأخيرة. رأى أمامه الخبز والماء، فعادت إليه الحياة التي تشظّت حيوات، قبل لحظات. وعاد إليه الأمل بالحياة. وتساءل عن المنقذ. وكان الجواب خاضعا للاوعي الحياة. تحوّلت الذكريات إلى عامل إنقاذ تمثّل بإشارات رمزية بامتياز: فردة حذاء أبيه، (تناص وفردة حذاء غاندي) وشال أمه، رمز الحماية والحنان
الأب هو الوطن الذي ظنّ الكاتب أنه فقده، إلى لا عودة، وإذا به يقوده، على دروب استعادة الأمل والحياة. أما شال أمه فهو بلدته إهدن التي أعادته إلى ربوعها، واحتضنته بهضابها وذكريات العرزال والخيمة والوزال
الخبز والماء رسالة فلسفية ذات جذور مسيحانية بامتياز. إنهما قربان الكاتب على مذبح الخبز المتحوّل جسدا، والماء الذي صار دمًا، في أفخاريستيا الفداء
جميل ميلاد الدويهي، أيها الرحالة البروميثيوسي المصلوب على جبل غربتك، عميقة جراحك. وأعمق منها منفاك الإرادي، صحراؤك اللامتناهية، في موتك الحتمي، كل يوم، وأنت تصارع من أجل أرض جديدة وسماء جديدة لن تجدهما إلا في مدينة أورفليس
تعليقات 2