عرض ونقد مصطفى النجار
عندما سئل (غوستاف فلوبير) صاحب الرواية الشهيرة (مدام بوفاري) عن أبطال روايته قال بلا تردد أنا مدام بوفاري؟! بينما صاحبة رواية (رغبات مهشمة) نفت أن تكون بطلة هذه الرواية، أي أن تكون (ريتا)، وليس من المحتم كما يُخيّل لبعض القراء أن يكون مؤلف أية رواية هو أحد أشخاص روايته، والأديبة والشاعرة اخلاص فرنسيس قالت تعرفت على أبطال روايتي من خلال الفيسبوك منذ عشر سنوات تقريباً، وكتبتها أنذاك قصة قصيرة، ومن ثم رواية أضفت إليها أحداثاً من نسج الخيال. الروائية ترصد فيها أزمة امرأة فشلت في تجربة زواجها وتخطتها السنوات وعانت ما عانته
وفي بوحِ داخلي قالت (ريتا) الشخصية المحورية للرواية يكفيني ما أعاني من ألم الكتمان وألم الحرمان وألم مجتمعات مريضة.. كفى؟
في صفحة ١٤ نظرت في المرآة ورأت شبح صورتها داخل المرآة، واغرورقت عيناها بالدموع، تعدت عمر الحب، خصلات الشعر الأبيض تظلل رأسها، لم تعد صغيرة، لقد كبرت! شيء ما انتفض بداخلها قائلة، لا.. ألستِ أنتِ من كنت ترددين، إن العمر لا يُحسب بعدد السنينّ؟ ثم تتراجع وتقول ولكن العمر هو عدد السنين حتى ولو كان القلب ما زال ينبض، ولو كنت تشعرين أنك أبنة العشرين.. لا لست أبنة العشرين؟ لقد تعديت العمر المسموح به للحب بأعراف البشر، لا لا قالت وابتسمت لن أخرج من ذاتي؟
وكم تخلل حوارها الذاتي من ألم ومن لوم ليس على المجتمع وأعرافه فحسب بل على القدر
سمتها المؤلفة اخلاص في مقدمة الرواية امرأة تنزف حزناً من شظايا كوابيس مجتمع تركها مهشمة، امرأة ترى نفسها ذات رغبات مسجونة ومكبوتة
وتعرفت ريتا على (شمس) طبعا عبر الفيسبوك وهي في تأزمها النفسي الذي جعل منها شخصية قلقة، مترددة، كانت أوراقها المبعثرةـ كما وصفتها الرواية- تجمع شتات أفكارها، ونقلت الكاتبة ما دار من حوارات كثيرة بينهما حتى التي تمحورت حول الحب الذي تدرَّج بمرور الزمن الى العشق والهيام والتَّولُّه، واخترق هذه الحوارات الثنائية أكثر من حوار داخلي (مونولوج) في طويّة ريتا تشي بما تعاني من حرمان وخوف من المستقبل وبخاصة بعد أن اتفقا على اللقاء وجهاً لوجه! بعد التواصل العاطفي عبر التواصل الاجتماعي
ـ المسار العاطفي لريتا
وكان لقاء تبدت فيه كل الرغبات بعد سنوات الحرمان طوت فيها الروائية اخلاص ملف الحرب الأهلية كما طوت ل ريتا ملف زواجها المبكر المخفق كأنها غير مهتمة بالماضي وعقابيله وفتحت ملف الحب والعشق بين شمس وريتا في قرية هادئة جبلية من قرى لبنان بعيدا عن المدينة وضوضائها ومن ضجيج روحها وكادت أن تملكه جسدها قالت في بوحها الداخلي مخاطبة إياه: ماذا فعلت بي؟ لماذا تأخرت؟ أين كنت؟ يا من جمعت روحي بين كفيك ونثرتها؟! وهي في ذروة رغبتها بين دعوته إلى غرفتها بعد سهرة في مطعم الفندق وبين إحجام كانت فيها الروائية دقيقة في رصد الحالة النفسية ل ريتا إذ تصف هذا المشهد ب “دخلت مسرعة أغلقت الباب هرباً من رغبتها منه وكأن شبحاً يطاردها، جلست إلى حافة سريرها وعاد المدعي العام يتبختر في رأسها، هل ترمي بعرض الحائط كل ما رُبيت عليه من قيم وتقاليد وأعراف ونواميس؟ وسبق أن حذرها قائلاً: لو أدخلته إلى حجرتك كيف ستواجهين نفسك بعد هذه الليلة؟ بأي وجه ستواجهين الآخرين؟
– الغياب المفاجئ
ثمة حدث زلزل كيان (ريتا) بعد مد وجزر في رغباتها هو غياب ( شمس) المفاجئ ورصدت الرواية وقع هذا الغياب على وضعها النفسي حقيبته في غرفته، قطعت ريبة ريتا بالتخلي عنها فماذا تفعل؟
شخضية شمس
سألته ريتا في لقائها: لماذا اخترت هذا الاسم ( أي غريب) أيها الغريب؟
ومن جوابه يستدل القارئ على ملامح شخص استولى على قلب (ريتا) لأني فعلا غريب! فأنا الغريب منذ نعومة أظفاري عن أهلي وفي وطني كنت غريبا؟ كبرت وانا غريب حتى في فترة تعليمي لم أثبت في مكان كنت دائما غريبا حتى في انتمائي السياسي والاجتماعي!!! أنا غريب لا أملك أي حق من حقوق المواطنة ولا حتى في عملي… أشعر كأني غريب حتى عن هذا العالم؟!
أرادت الراوية أن تجمع بين الغرباء؟!
وفي سياق الرواية يجد القارئ نجاح هذه الشخصية في وطنه وترقيّه في وظيفته في الوقت الذي كانت (ريتا) في مصح خاص بالسرطان في مغتربها
– الأحداث
تتالت احداث الرواية بعد غياب شمس بسبب حادث سير أشرف فيه على الموت، وسفر ريتا بعد انقضاء إجازتها إلى مغتربها، وانقطاع الأخبار عن كلا العاشقين. وحدث مفاجئ آخر، إصابة (ريتا) بالسرطان وذهابها إلى المصح الذي يبعد عن مسكنها ست ساعات دون أن تُخبر أولادها، وظهور الأولاد حدث بحد ذاته، وبعد شفائها من المرض العضال تعمل ريتا في المصح، وإفادة شمس إلى بلد ريتا من قبل الشركة التي يعمل بها، ثمة حدث قدري يسوقه إلى موظفة في الشركة اجتمعت مع ريتا في صورة لمحها شمس واكتشف أن الموظفة (سلمى) هي أبنة (ريتا) … وتختم الروائية اخلاص هذه الرواية بحدث لقاء بين البطلين العاشقين بواسطة ممرضة غاية في الدماثة بشكل دراماتيكي!
– قراءة الرواية نقدياً
( رغبات مهشمة) هي الرواية الأولى للأديبة الشاعرة اخلاص اعتمدت فيها على سرد أحداثها بشكل منطقي ومتتابع تدخل القدر في صياغتها ولم تكثر من عدد الشخصيات، وتعتبر (ريتا) الشخصية الرئيسية في الرواية في استبطان أغوارها النفسية خاصة في الثلث الأول من صفحات الرواية التي بلغت مئتين واثنين وثلاثين صفحة، وفي هذا الجانب يمكن اعتبار الرواية من الروايات النفسية التي تُعنى بخصوصيات المرأة من مشاعر انثوية وحتى مدحت ذوق المرأة في اللباس (اللون الأزرق) وفي الورد وفي شؤون الحب إحساس المرأة رومانسياً بمتعة الألم والتحليق في مخاطبة عناصر الطبيعة من حولها، أيها الليل اشهد بكل ما يخالجني من أشباح العشق الجليل، أيها القمر اشهد على كلمات الحب، أيها الروح الهائم في الفضاء اشهد على الشعور الجليل في زمن القبح؟! تذكرنا بروايات مثل ( آلام فرتر) لجوته و(ماجدولين) لمصطفى المنفلوطي (وإني راحلة) ليوسف السباعي وسواهم.
– اللغة: كون الروائية اخلاص من عالم الشعر فكانت عتبات كل فصل من الرواية من الشعر المنثور كما وكأنه الحوار الثنائي بين ريتا وشمس والحوار الداخلي الخاص ببوح ريتا مفعماً بالشاعرية بلغة جميلة جديدة وجذابة، وإن الإفادة من الشعر، اقصد اللغة الشعرية، في القصة أو الرواية في غاية الأهمية، فإن زادت تحولت القصة أو الرواية إلى جنس آخر، ولغة الشعر في (رغبات مهشمة) لاءم جو الحب والعشق، ولكون (ريتا وشمس) قريبين من الشعر
– الجنس
ثمة توجه واضح لأسباب عديدة منها استقطاب القارئ بإشاعة الجنس في الرواية الحديثة، وهنا تقوم على السطح آراء نقدية وروائية تتحمس لهذا التوجه إلى أن وُصف أدبهم ب (أدب غرف النوم) لما فيه من تجاوز سيء النوايا! والرواية فيها لمسات ليست كثيرة من الجنس تخدم المسار النفسي لامرأة عانت من الحرمان بدون إفراط كما فعل الروائي الإيطالي (ألبرتو مورافيا) في رواية (السأم) أو (الاحتقار) في توظيف الجنس بتقربة وضع اجتماعي ما
الجنس الوارد في رواية (رغبات مهشمة) لم يكن الغاية منه التحريض الجنسي بقدر حرصها على توظيفه فهو جزء مفصلي في تنامي الرواية نفسياً
ثمة تلميحات وردت في سياق الرواية لم تستفد من الوقوف عليها في تعميق وتنامي مسارها الدلالي والجمالي واستعاضت عن ذلك بالبوح الوجداني في المزاولة بالشاعرية والشعرية المستقاة مفرداتها من قاموس الحب والعشق المتأرجح بين المادي المحسوس وبين الروحي والمعنوي، وسعت إلى تقديم رواية تجمع إلى اسطرة العشق بين عاشقين سمتهما غير مرة ب الجبابرة
من التلميحات العابرة
– تجربة زواج (ريتا) التي اكتفت بعبارة وردت في سياق الرواية: نضجت أي ريتا قبل أوانها وحصدها من لم يستحقها؟! وقد تحاشت الرواية موقف المجتمع أو الآخرين من زواج امرأة افترقت عن زوجها بفعل الموت أو بفعل الطلاق وهو موقف قاسي دعمته العادات والتقاليد وخاصة إذا تقدم بها السن قليلاً أو كانت أما لأولاد لها! وفي هذا الموقف ظلم فادح مما جعل (ريتا) بطلة الرواية تعتب على القدر وتلومه غير مرة
فما موقف (ريتا) حين ابتسم لها القدر بعد حرمان؟ أما من تحولات نفسية جذرية في كيانها من الداخل؟ وخاصة بعد أن خاضت تجربة المرض العضال وتماثلت إلى الشفاء منه؟
كان من الممكن أن تفنى الرواية دلالياً وجمالياً إن عالجت مثل هذه الإشكاليات التي اعترضت (ريتا) وكان اللوم والتلميح ليس إلا ..؟
إضافة إلى ما تقدم من تنبيه بل تحذير المدعي العام في محكمة افتراضية نفسية ل ريتا
لو أدخلته أي شمس إلى حجرتك كيف ستواجهين نفسك؟ بأي وجه ستواجهين الاخرين…؟ والرواية كان بإمكانها دحض موعظة لابتعادها عن جوهر الاخلاق وابتعادها عن أسسها ملخصة (رأس الحكمة مخافة الله)
وثمة تحول له علاقة في المسار النفسي ل (ريتا) هو تسليط الضوء على أولادها فيخرج الرواية من مدار الذاتية المكتفية بالزوج بعد الحصول عليه إلى مدار الغيرية والخروج أيضاً من ربقة رغبات كانت مهشمة
الرواية بالإجمال رواية اعتمدت على السرد والتوصيف والحوارات وتسلسل الاحداث بشكل زمني متواصل ركزت على تجربة امرأة عاشت الحرمان بعد فشل زواجها ونأت عن تجربة الحداثة
رغبات مهشمة رواية اخلاص موسى فرنسيس
مصر- توزيع الاهرام
بيروت – دار غوايات للنشر
عمان- دار يافا للنشر والتوزيع