سمر كلاّس شمسٌ وبحر
لمْ أكنْ أشعرُ بالخوفِ، كنتُ الجنديَّ الذي يدافعُ عن نفسي، ومازلتُ. لا أحبّ الاعتماد على أحدٍ لمواجهة صعوبات الحياة. لوجهي ملامح قلبٍ ظاهرة مرئية غير مزيفة. أحبّ إحساس القلب، ولغة القلب، وكلّ ما حولي من القلب وإلى القلب
كنتُ أحبّ العصافير، وكانوا لا يذخرون جهداً للغوص إلى أعماقي، إلى نقطةِ القلبِ
كانت لغتنا سرّية لا يعرفها أحدٌ سواي. وكنتُ أحبُّ الرّسم، حتى أنّي رسمتُ عصفوري وبجانبه وردة على جدار منزل جدتي في حيّ القيمرية. ورسمتُ زخرفة السقف بشكل فنيّ وبارع، لم أعدْ أرسم، ذلك لأني حملت خيبتي ورحلت عن حلمي. ربّما لأنّ كلمات توبيخ جدتي رحمها الله محفورة في الذاكرة. لم أعد قادرة على الرسم، ولا أملك ورقة ولا قلم، بل لم أعَي أن أطلب هذا
كان والديّ مشغولين بتحضير إجراءات السفر، وكانت أختي صغيرة جداً لا تجيد اللعب معي. وأما البقية فكانوا أكبر مني. لطالما وقفتُ أمامَ بحرةِ المنزلِ أتأملُ الماءَ المتدفق من فمِ السّمكة يشاكس الزهور المنثورة على سطحها، ويجعلها تغوص لمدة ثم تخرج لتتنفس الهواء، هكذا كان شكل البحرة. وكنت الطفلة المشاكسة التي تحبّ أن تزاحم الزهر وتغوص معه في الماء، أسمعُ ضحكاته وأضحك معه، كنت أشعر أنني أمنحُ المكانَ رونقاً مميزاً من الجمال. وكان المكان نبعاً يفيض بالحبّ، والأصدقاء. وبخاصّة عندما تتوسط الشّمس فسحة المنزل السّماوية، صار لديّ حلم كبير. أجاهد كيْ أحقّقه. لطالما ادّخرت نقودي لأشتريها، اعتقدتها كرة، وكنتُ أحسبني قوية لا أحد يجرؤ على اللعب فيها، لأنها لي وحدي. كان يقيني أنها سرّ قوّتي، وكلّي ثقة بأنّي لنْ أستسلم حتى أحقّق رغبتي في امتلاكها، هذا النبع الأرجواني الذي يفيض بالجمال. ودارت الأيام، حملتني على متن الطائرة إلى عالم آخر، كنتُ أعتقد أنها نزهة كما المعتاد
وأنّنا سنعود في المساء إلى المنزل، وإلى جدتي. لكنّ النزهة طالت أياماً وسنوات! حملتُ في قلبي مشاعر متناقضة. جميل أن يلتقي الإنسان بعالمٍ لا يعرفه ولا يتقن لغته، ويتعرف عليه، ويصبح لديك أصدقاء جدد. وحزينٌ جداً أنْ تتركَ مسقطَ رأسكَ، والجدة والأصدقاء والبلاد، ليستقلبني منزل جديد. نمت على قلقي، واستيقظت على دهشتي! نظرت بعين عدسة الكاميرا لتوثّقُ المكان. ما إن صعدتُ على الكرسي وفتحتُ النافذة، حتى شاهدتُ بساطاً أزرقَ اللونِ في الأرض. لأوّل وهلة اعتقدتُ أنّ السّماء سقطت على الأرض. وأن زبد البحر غيمها. سرعان ما نظرتُ إلى الأعلى لأجدها في مكانها. وبدأ النظر يتأرجح في حيرة عجيبة بين الأرض والسّماء! إنّه الماء فلا سماءَ في الأرض، ولكنّ لٍمّ لون الماءِ أزرق؟ كيف يمكن لهذا العملاق أن يعيش تحت السّماء؟ وفجأة بدأت الشمس تفرشُ أشعتها على سطح الماء وتخرج من وسطَ عمقِ البحر، صرخ صمتي بدهشة كبيرة: إنها كرتي. تلك التي تركتها في سماء منزلنا هناك في سورية. كانت الشمس تفرش ألوانها المتغيّرة على البحر حتى اتخذ اللون الأرجواني. إنّه الشروق! مشهد جميل، ساحر، وممتع. وأنا الصغيرة المندهشة الفرحة بلعبة الألوان! أدركت ما يعنيه نداء اللون، ومنذ ذلك الوقت وأنا أستيقظ لأراقب شروق الشّمس
لم يكن الوقت مناسباً حينها، لتصل الفكرة إلى جواب مناسب لسؤالي. كانت الأفكار تذهب لتستقرّ في عقلي الباطن. احتفظت بصور العين في الذاكرة وأنا أقارن ما بين مائه وماء بحرة منزلي هناك. فوجئت بصوت الأمواج، وحركة بساط الرّمل مع نسمات هواء الصّبح. فهذه أول مرة أشاهد وأسمع نداء الشمس من البحر
لا شيء أكثر روعة من أنْ تستقبل الصباح بماءِ البحر، وشمس أرجوانية
كان صوت البحر يوقظ شهيتي للعب مع موجه والشمس. أسئلة كثيرة تدور في مخيلتي، وتتصارع في ساحات العقل. الجميع مبتهج. المكان جميل، والمائدة شهية. أما أنا، مسكونة بتفاصيل صباحية عن بحر يلامس عمق الروح. كنتُ أبحث عن فستانٍ يليق بصديقي البحر، إنه فستاني الأبيض، وقبّعة تليق بالشمس. أتأمل نفسي في المرآة، و في داخلي مخزون فكريٌّ عنه، لكنّي لا أعرف كيف سأواجهه. أو كيف سألعب معه
تعليقات 1