الشاعر جميل داري
ممارسة الشعر سلوكاً وكتابة وقراءة من نعم الدنيا، ونادرون من تلاقت عندهم آلهة عبقر وجنّيات الأولمب، فالشعر خلاصة الروح المنيرة في مواجهة جحافل الظلام وقطعان اللئام
وممارسة الشعر فيه خطورة كمن يلعب بالنار التي تحرق أصابعه، ولكن لا يجد مناصاً من هذا الاحتراق الذي يؤدّي إلى ولادات تترى ، كالفينيق الذي يرتدي النجوم، ويسافر في خضمّ المجهول الى اللامكان واللازمان:
تتوهجُ في مرجلِ الوقتِ
والوقتُ لا ينتهي
فاطلبِ الآن ما تشتهي
غيمةً مرّةً
نجمةً حرّةً
في مدى الولهِ
إنه الشعرُ يجترّ عشبَ الخلودِ
ويرعى المياهَ التي تتسرّبُ بين يديهِ
ولا ينتهي
ليت ما بي بهِ
فكيف تخشى على نبضنا المعلّق على جدار الضوء؟؟
الشعر يُخشى منه لا عليه
ومن هنا فتك الفاشست وفرانكو بلوركا
النقاد ودارسو اللغة يتطفلون على مائدة الشعراء، فينالون الدكتوراه على لحم ودم السياب
يمرّون بأنشودة المطر، ويشربون منها زلالاً، وتبقى القصيدة محفوظة في الصدور، وتذهب كتاباتهم إلى القبور
جميل داري شاعر سوري مقيم في الإمارات
شتان بين دارس اللغة ومقترف الشعر
دارس اللغة يمشي على الماء
وحارس الشعر يمشي على النار
اللغة نفسها لم يطورها اللغويون بل بهم نكصت على أعقابها
اللغة طورها الشعراء
فلا خوف على الشعر
بل يكاد يكون الخير الوحيد في عالم كلّه شرّ
لا أنكر أنّ الشعر يموت أحياناً كما هو حاله في العصر العثماني
وذهب العثمانيون، وبقي الشعر يلعنهم، ويلعن حفدتهم واحداً واحداً
التابوات كلّها تجتمع ضدّ الشعر، وهو لا يستسلم
قدر الشعر ألّا يستسلم
الحرب الباردة بين القصيدة الموزونة وغير الموزونة هي حرب مدرسية لا علاقة للشعر بها ، ووقوفك إلى جانب أحد الطرفين لا يقدّم ولا يؤخّر ، فالشعر خارج هذه المعركة هو وحده المنتصر دون أن يشارك فيها، لأنّه لا يخوض الحرب أساساً بل يخوض الحبّ ، والحبّ لا ينهزم…
الشعراء ثلاثة:
1- واحد تقليدي مبهور بدربكة الفراهيدي لا ينحرف يمنة ولا يسرة ، بل على الصراط المستقيم ..
2- واحد تفعيلي معجب بالسياب ومن لفّ لفّه من رواد التفعيلة، لكنّه أرحب صدراً من سابقه، فقد ينحرف قليلاً أو كثيراً إلى التقليدي أو النثري..
3- واحد نثري لا يؤمن بسابقيْه ، فيراهما متخلّفيْن عن ركب الحداثة، مثله الأعلى عربيّاً الماغوط أو أدونيس أو بول شاؤول، وأجنبيّاً بودلير أو إدغار آلان بو..إلخ
هؤلاء غالباً يسخرون من بعضهم، وتصل السخرية أحياناً إلى تهمة الخيانة العظمى.
أقول لهم:
يا جماعة الخير.. لا تضعوا الشعر في الأقفاص ..دعوه حرّاً طليقاً كما النوارس والنسور..
فالشعر أوسع منكم ومن تعصّبكم الأعمى
ارفعوا رؤوسكم قليلاً إلى الأعلى..
الشعر سماء
…
أنا سرابٌ
أجاجُ الماءِ منفاهُ
وليسَ لي في رمالِ الوهمِ
أشباهُ
فمنذُ ألفٍ زمانٍ
لم أجد أحداً
يبلِّطُ البحرَ مثلي
فاغراً فاهُ
بدأتُ بالجبلِ العالي
لأبلغَهُ
بهِ يلوذُ بشوقٍ
كلُّ مَن تاهوا
وفجأةً سقطُوا
لم يألفُوا جبلاً
وحلَّ محلَّهُمُ
ما نحنُ نخشاهُ
سافرتُ خلفَ رماد الشعرِ
أشعلُهُ
حتى انطفأْتُ
فما لي اليومَ أصْلاهُ.