يوسف طراد نقلًا عن موقع صحيفة النهار
11-03-2022 | 08:46 المصدر: “النهار”
نصوص فلسفيّة روحانيّة، تجوّلت بين رمزيّة الطقوس، فأعطت في الغالب المحاورات المعرفيّة التي تضمّنتها، لأبطال رواية “الطريق الرابع” لناتالي الخوري غريب
لغة الرّواية الموجودة في سبعة فصول، تميّزت بصورة أساسية، بين القدرات الحسيّة لشخصيات غير اعتيادية طُوِّرت جينيّا، وهي بالطبع قدرات ذهنية طبيعيّة، وليست لأبطال متشخصنة حرّة، وبين الرّوح الجامع للتصورات النّفسانية والتّأمل، وحضور الأفكار إلى الذّهن والتي تؤثّر على مسار الحياة
هل بداية طرقات الحياة متجذّرة بالأرض كجذور السنديانة؟ فأول طريق هي مستديرة تدور حول الجذع، حالمة بالانعتاق، لكنّها معبّدة بالتقاليد التي تُمارس عليها، فتجعلها تدور وتدور وتعود إلى البداية: “تلك الطريق التي انتهت قصيراً جدّاً، قريباً من جذور الشجرة، من دون أن تبتعد عنها، وكأنّها لقمة خبز لفّت، ترمز إلى قصر الطريق التي تتّخذ من الموروث دربَا.”
أمّا الطريق الثاني، عبر الفضاء، فلا ظلَّ لها على الأرض، حيث يسمو القلب بأجنحة نسر إلى المدى الواسع من دون سؤال، وقد أفردها لأمنيات باسمة لوعد جميل، كلّما ضجرت الحياة من حقيقة الانتظار الطويل: “الطريق الثاني، وقد ابتعدت كثيراً، لتخرج عن مسارها الأرضيّ محلّقة لتجاري النسر في نهاية طلوعه، إنّما ترمز إلى الطريق الصوفي في مجاراة الحقيقة، خارجاً عن الشرائع والمألوف”
لكنّ الطريق الثالث تصل إلى اشتهاء نهر لضفافٍ وبحرٍ، فهو لا يكترث خلال تدفّقه لاختيال النرجس على حفافي الضفّتين، ويبقى للحصى عطشها الصامت في قعره: “الطريق الثالث متعرّجة في مسارها، إلّا إنّها تصل إلى مناسبات لا تلبث أن تصل إلى مجرى نهر واسع! ربّما هي الطريق إلى الآخر التي تغرف من المنبع نفسه.”
على الطريق الرابع، نهاية طرقات الرواية، انهمرت دموع خفيّة خرجت طوعًا وحنينًا لمن يستحقها، حيث كانت تعدو أمام ناظر من يسلكها، صور مشوّشة عن أحبّة، ترتشف من كأس نبض الفراغ المثقوب، من دون ذاكرة أو هوية أو انتماء إلى هذا الكوكب
رواية فلسفيّة بامتياز، اجتمع فيها جمع من الفلاسفة، والحكماء، والكتّاب، والفنّانين، وكلّ واحد منهم، عزا عنصراً خاصاً من الطبيعة الإنسانية، إلى جوهر الذّات المشتركة بين الناس جميعاً. فجالت الأرواح بين المدن بمآسيها ورونقها، وكانت هذه العناصر تغذية للنار المقدّسة، وهي النار المشتركة بين كلّ البشر التي تُعلي المعرفة. حيث لم يعد الطقس الديني غاية في ذاته، بل أصبحت ماهيته من أجل اكتشاف معرفة رمزية تبرره فقط
قبل الوصول إلى الطريق الرابع، كان هناك زحمة سير أفكار، سببها جميع من استندت إلى نتاج فكرهم شخصيّات الرواية: كارل ماركس، يونغ، هيرمن هيتس، باولو كويللو، جون ماكرين، سلفادور دالي، فرويد، هنريك إبسن، كانط، نوفاليس، غوته، فارتر، جوستان غاديير، غاليليو، جوردانو برانو، أندريه كونت سبونتيل، سيمون دي بوفوار، أفونو كروتشه، كارلوس زافون، إيفان كارامازوف، شيلنغ، هيغل، ميلان كونديرا، جان بول سارتر، نيتشه، ميشال هولباك، فرديدون اسفندياري، بيتر سلو تردايل، فيتغنشتاين، أنجيلو سيلسيوس، شوبنهاور، كونفوشسيوس، دوستويوفسكي، هايدرغر، هاري بورتر، ميخائيل بولغادوف، لودفيغ، وغيرهم ممّن ظهرت خلاصة أفكارهم بين السطور
أبدعت ناتالي الخوري غريب عزفاً على أوتار الجسد، حين صدحت الأحاسيس، مبتهلة إلى إله اللّذة، في محاولة لتقييد الروح في معبد النشوة. ناتالي أستاذة الفلسفة، هي العالمة علم اليقين، بأنّ غذاء الروح، هو المعرفة التي غايتها البحث عن حقيقة الوجود، من أجل السعادة، قد رأت، أنّه بالرغم من توافق الرؤى لدى الأشخاص الذي ينتج عن أحاسيس أكيدة، لكنّها ليست خالية من أوهام متناقضة، فقد يؤدي هذا التوافق إن كان واهياً، إلى إجهاض الثمرة التي لقّحت زهرتها نحلة الحبّ: “استسلمت لذراعيه، وكمن بدأ يعرف ملذّات الطريق، استسلما للرغبات وهما ممتدّان على الشاطئ! كان يغرف من نهديها كمن يحنّ إلى ماء أبدي، ومن ثم يتلمّس كلّ جسدها، ليخبرها كيف للقبلة أن تكون محطّة دائمة تعد بالمزيد”
الشاعريّة الفلسفية، لم تفارق السرد المشبع بصور من جوهر العالم الحسيّ. كلمات ذرت رماد الأيام مع الريح، في فراغ الصقيع البليد، فكانت فسحة تأمّل للحلم والحبّ، وانعتاقاً متوهجاً كحكاية لؤلؤة غافية في الأعماق تنتظر خلاصها: “من لا يسلّم نفسه للريح لا يمكن أن يذوق طعم التحليق”. هل تكمن السعادة بإرضاء الذات بالعطاء من دون سؤال، ومن دون انتظار الشكر من الآخرين. أو هي الراحة من خلال البوح بكلمات صادقة عابرة إلى الملاذ الدائم في سكون النفس؟: “إنّ مشاركة البوح هي القدرة على سماع الذات من الخارج، في فصل بين الذات والموضوع”
تحضر أمامنا آية من الكتاب المقدّس “فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ” (مت 5: 48). عندما نقرأ: “بدل التكلّم عن جينة الله بهذا الأسلوب، لم لا تتكلّمون بأنّنا جميعنا مشروع آلهة وقدّيسين!”، هل نستطيع أن نكون قدّيسين كما نشتهي من خلال العبادة، وهل نستطيع مواصلة الاستمرار بالبحث في داخلنا عن إنسان ينشد العقول المنفتحة والقلوب الطيبة بعيداً عن دعاة النفاق؟
أوصلت ناتالي الخوري غريب القارئ، إلى الرّوحانية المقرونة بوجدانيّة وتفكير صافٍ، وأيقظت الإنتباه الضروري للتأمّل في معجم الفلسفة، باعتمادها على ركيزة دائمة ترتكز عليها الذات النفسانية والحيوية، من أجل تأمين استقرار دائم في التفكير، عن طريق الإختيار الموفق للموقف النهائي الذي تتمنّاه الأنفس
هي الطريق الرابع، تلّفها ضبابية مصير الكائنات التي لها تصوّر آخر لدى العلماء. ولكن الإجماع عام حول الحق المطلق المعطى لأولئك الذين يغوصون في الخلايا الإنسانية، من أجل السعادة المطلقة، في عالم إرضاء الرغبات، إذا استطاعوا أن يستنسخوا خلايا حميدة من الأرواح الأبيّة، كما استنسخوا البشر والنعاج
وأنت تسير على الطريق الرابع، من أجل الوصول إلى قصر “وليمة الحمل”، انتبه أن لا يكون مسيرك عكس السير، كي لا تكون مأدبتك على هذه الفانية