
تكوّنت فكرة هذا العنوان والمقال أثناء متابعتي لمحاضرة بموقع (الغرفة 19) بعنوان الأنثروبولوجيا الاقتصادية للدكتور سعيد عيسى، تقديم إخلاص فرنسيس…
الأنثروبولوجيا الاقتصادية كما عرّفها المحاضر هي العلم الذي يبحث في الأنظمة الاقتصادية داخل سياقاتها الثقافية والاجتماعية، أي أنها لا تدرس الاقتصاد كأرقام أو أسواق، بل كظاهرة إنسانية ترتبط بالعلاقات الاجتماعية، والرموز، والقيم التي تُوجّه تصرفات الأفراد.
فالاقتصاد الكلاسيكي يركّز على سؤال (كيف يُنتج الناس ويستهلكون الموارد)؟
أما الأنثروبولوجيا الاقتصادية فتهتم بالسؤال الأعمق وهو :-
لماذا يُنتجون ويستهلكون بهذه الطريقة بالذات؟ وما الذي يرمز إليه المال أو العطاء أو التبادل في ثقافتهم؟
محاضرة قيمة استمرت قرابة الساعة، غير الأسئلة والتعقيبات. ولمن أراد الاطلاع عليها، فهي متوفرة على اليوتيوب…
لكن ومن العبارات الأولى عن التداخل الثقافي والاجتماعي مع الاقتصادي، قفزت إلى ذهني أغنية سودانية تُعرف ضمن تصنيف (أغاني البنات) بالسودان تقول :-
(ادونا فندكم ندق ونديكم)
و(الفندك)لغير الناطقين بها هو وعاء خشبي منحوت من جزع شجرة، يُستخدم لطحن الحبوب والبهارات بواسطة (المدق) أو (يد الفندك)
صورة بسيطة، لكنها تختصر واحدة من صيغ التعاون والتبادل الاجتماعي في مجتمعاتنا القديمة.
وأغاني البنات بطريقتها الرمزية والمجازية كانت متنفسًا لأنثي المكبوتة في مجتمع محافظ. وأظن أن مصطلح (المجتمعات المحافظة) نفسه مع الانفتاح الهائل الذي نشهده، صار في طريقه إلى الزوال…
المهم… (دا ما موضوعنا).
دعونا نعود إلى (Milk Exchange) ولا أدري مدى دقة المصطلح، لكني بحكم المهنة وممارستي للعمل المصرفي لسنوات طويلة، اقتبسته من مصطلح (Money Exchange)، وسيتضح لاحقاً الرابط بين (استبدال العملات واستبدال اللبن الحليب)
فاسمحوا لي أن آخذكم في رحلة إلى قريتنا الواقعة على النيل الأزرق جنوب الخرطوم و الزراعة هي النشاط الرئيسي لأهلها، وتربية المواشي تأتي في مرتبة تالية في (حدود الاكتفاء الذاتي).
أما القرى المجاورة التي تبعد قليلًا عن النيل، فكانوا أهل ماشية أكثر من الزراعة، فيأتون إلى قريتنا الزراعية لاستبدال ألبانهم بالحبوب، خاصة الذرة الرفيعة التي كانت تمثل الغذاء الرئيسي لمعظم سكان وسط السودان…
كان اهل تلك القري يحملون اللبن على الحمير في أوانٍ تقليدية تسمي ( التُمنة) ويأتون إلى السوق لإجراء عملية (البدل) وهي المقايضة بين اللبن والحبوب
وكان يُطلق على الواحد منهم (بدّالي) والجمع (بدّالين)
وكانت عملية البدل هذه نظاماً اقتصادياً واجتماعياً متكاملاً قائماً حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي رغم وجود النقود كوسيط لتبادل السلع والخدمات في ذلك الوقت..
لكن الغريب أن (اللبن)دون غيره من السلع لم يكن يُباع أو يُشترى بالنقد بل بالمقايضة فقط..
وما يثير الدهشة أكثر أن تلك المجموعات نفسها (البدّالين) هم اليوم من أشهر تجار العملات في السودان!
كأنهم احتفظوا بمهنتهم الأصلية طوال هذه العقود (الاستبدال) لكنهم هذه المرة انتقلوا من تبديل (اللبن) بالحبوب إلى تبديل العملات.
صاروا سادة السوق، بما يمتلكونه من العملات الصعبة، و(الصعبة جدًا)
ولا أريد الخوض في تفاصيل الاقتصاد والسياسة، لكن الحقيقة أن الحكومات نفسها في أزماتها المالية كانت تستعين بهم لفك الاختناقات، بل إن بعض الحكومات الفاسدة أصبحت جزءًا من سوق العملة نفسه!!؟
ومع التقدم الرقمي صار (البدّالون الجدد) يمتلكون مناديب في كل أنحاء العالم.
وخلال الحرب الأخيرة، لعبوا دوراً فعّالا في تخفيف معاناة المواطن السوداني المشرد في المنافي، عبر التحويلات الرقمية والسوق الموازي عبر القارات في وقت عجزت فيه المؤسسات الرسمية عن أداء هذا الدور…
في نظري ما حدث بين (بدّال اللبن) و (بدّال العملة) ليس مجرد انتقال مهني أو اقتصادي، بل تحوّل في طبيعة الروح الاجتماعية نفسها كان (البدل) في الماضي عملاً اجتماعياً تضامنياً، يحكمه الرضا والعِرف وتغلفه علاقة ثقة لا عقود فيها ولا وسطاء. كان تبادلاً للحياة ذاتها (اللبن) مقابل الذرة، العافية مقابل القوت، في زمن كان الناس فيه يعيشون (ببعضهم لا يتاجرون ببعضهم.
أما (البدل) اليوم فقد صار علماً في المضاربة، تحركه الأزمات والسياسات، وتغذّيه الحروب.
تحول (البدّال) من راكب حمار يحمل اللبن إلى تاجر يحمل الهاتف الذكي، يبدّل العملات بكبسة زر بين الخرطوم، ودبي، واسطنبول.
لكنه في الجوهر ما زال (بدّالي) نفس اليد التي كانت تمتد بالمقايضة لتكسب الرزق، صارت تمتد لتكسب (فرق السعر) و الحقيقة المؤلمة أن الأنثروبولوجيا الاقتصادية لو درست السوق الموازي في السودان، لوجدت فيه أثر تلك القيم القديمة وقد انقلبت على وجهها الكرم تحوّل إلى مضاربة و التبادل الجماعي صار وسيلة فردية للنجاة،
و(اقتصاد اللبن) الذي كان يسقي الجسد والروح، صار (اقتصاد العملة) الذي يطفئ الجسد ويحرق الروح.
كأننا — ببساطة — انتقلنا من (Milk Exchange) إلى (Money Exchange)،
لكننا في العمق فقدنا (Human Exchange) — أي جوهر التبادل الإنساني الذي تقوم عليه المجتمعات.
لقد تغيّر الفندك، والمدق، والبدال، والعملة…
لكن (المعنى) ظل حاضراً ينتظر من يقرأه بعين الأنثروبولوجي لا بعين الاقتصادي.
فالاقتصاد، في نهاية الأمر، ليس أرقاماً، بل حكاية عن الإنسان حين يجوع، وحين يشبع، وحين يبيع اللبن ليشتري الهواء…
وليت المتقاتلون في الحرب (السودانية السودانية) يبدلونها بالسلام..
وفي الختام سلام من بدّالي السلام
محمد طلب
mtalab437@gmail.com
