شوقي بزيع
هل كان انتحارها المأساوي ثمرة تصدعاتها النفسية أم رهاناتها الخاسرة ؟
آمال جنبلاط وسعيد عقل : ” المركب ” الزوجي الذي أغرقته حمولته الزائدة
شوقي بزيع
قد تكون العلاقة الزوجية القصيرة التي عاشها كل من سعيد عقل وآمال جنبلاط في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم , إحدى أكثر العلاقات بين المبدعين غرابة ومأساوية. صحيح أن تلك التجربة الغامضة لم تدم أكثر من خمسين يوماً من الزمن , قبل أن تبلغ خاتمتها الصادمة بانتحار الزوجة الشابة , ولكن الصحيح أيضاً أنها ما تزال تبدو أقرب الى الأحجية الشائكة والملابسات المحيرة منها الى أي شيء آخر . ولعل هذه الملابسات بالذات , هي ما استوقف العديد من القراء والمهتمين , وأثار فضولهم لاستجلاء ما خفي من وجوه تلك العلاقة الملغزة , وفي طليعة هؤلاء محمود زيباوي وعبده وازن ومحمد الحجيري .
والواقع أن أي استدعاء راهن لمشهديتي الزفاف والانتحار , لا يمكن أن يغض الطرف عن الأبعاد الدلالية لذلك الارتباط الدراماتيكي الذي يبدو منتزعاً من إحدى مسرحيات لوركا , أو من أحشاء الأسطورة التي كان سعيد عقل شغوفاً باعتناقها أو اختراعها . ومع أن كلا المشهديتين المتقاربتين في الزمن قد تم تناولهما بالدراسة والتحليل من قبل العديد من النقاد والمهتمين , فإن الحدث المؤثر كان يمكنه أن يحظى باهتمام أكبر لو لم يتمكن الغبار الكثيف الذي أثاره الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة اللبنانية في حزيران عام 1982 من صرف الأنظار باتجاه مأساته الأشمل وهوله الأشد وطأة . وإذا كانت المسافة الفاصلة بين الطلقتين اللتين سددهما كلّ من آمال جنبلاط وخليل حاوي نحو رأسيهما المثخنين بالكوابيس لا تتجاوز الأيام المعدودة , فإن كلاً منهما كان يعبر على طريقته عن احتجاجه الصارخ على بؤس العالم وفساده وانسداد أفقه .
على أن أي قراءة معمقة للعلاقة بين الطرفين , لا بد أن تسبقها وقفة سريعة عند صورة المرأة في نتاج سعيد عقل الشعري . فالمرأة عند عقل لا تحضر بوصفها كينونة إنسانية واقعية , تتشكل من لحم الحياة ودمها الفعليين , بل بوصفها كائناً أثيرياً يشكل تغييبه الواقعي الشرط الأهم لاستدراجه الى خانة التخييل . لا بل ليس ثمة من حاجة عنده الى المرأة الواقعية , ما دام هو الذي يتكفل باختراعها من عندياته , بدءاً من الاسم نفسه ووصولاً الى مواصفاتها الأثيرية . فليس بالضرورة أن تكون دلزى ومركيان وجلنار وتيانار ونلّارا , أسماء لنساء حقيقيات , ما دامت امرأة عقل هي السراب بعينه كما في قوله
أجمل ما يؤثر عن أرضنا أوهامها أنكِ زرتِ الوجودْ
وحتى لو قدّر لامرأة سعيد عقل أن تنزل من عالمها السديمي لتلامس الأرض , فهي أقرب الى الفكرة الفلسفية منها الى الكائن الحي ذي الملامح المحسوسة , كما يظهر من البيت الشهير واللافت في دلالاته الذهنية المجردة
لوقعكِ فوق السرير مهيبٌ كوقع الهنيهة في المطلقِ
وإذا حدث للمرأة أن تجسدت في شكلٍ وقوامٍ وملامح بعينها , فإن جسدها لا يتشكل في أغلب الأحيان في نصاب جمالي مكتمل , بل يحضر عبر أجزاء مستقلة وقائمة بذاتها , بحيث يتناول الشاعر عيني حبيبته وفمها وشعرها ونهديها وقدميها , كلاً على حدة . وهو إذ يفعل ذلك يؤكد من خلال رؤية للأنوثة مثالية وشبه أفلاطونية , أن للمرأة حضوراً طيفياً ينبغي أن يحض الشعراء على الكتابة ويرفدهم بعوامل الالهام , وأن ما تملكه الأنوثة من جمال خلاب , بجب أن يكون غير قابل اللمس , وأن يظل قيد المخيلة والوجد والشغف الخالص , كمثل قوله
وقربكِ لي معبدٌ لا يُمس يُزار ويُعبد من شاسعِ
ولعل هذا الإعلاء الشعري المفرط للمرأة , كان يجد مكوناته الأولى في طفولة سعيد عقل المبكرة , وهو الذي التحق في صباه بمدرسة الإخوة المريميين , كما جرت تتنشئته من قبل أسرته وفق التقاليد المسيحية المحافظة التي كانت تسود مدينته زحلة في العقود الأولى من القرن العشرين . وقد بدت دراسته للاهوت المسيحي , ومن ثم تدريسه له في وقت لاحق , بمثابة ترجمة فعلية لتشرّبه تعاليم ذلك اللاهوت والافتتان بالشخصيتين النسائيتين الأكثر بروزاً في الديانة المسيحية , وهما مريم العذراء , ذات الجسد الأثيري المجرد من الشهوات , ومريم المجدلية التي زودته بتصور ملتبس عن المرأة يتراوح بين الحسية الايروتيكية وبين الالحاح المضني على طلب الغفران . وإذا كانت أغوار الشاعر قد ظلت محل تنازع قاس بين الصورتين , فإن “التسوية ” التي عقدها مع نفسه بدت وكأنها تقضي بتحويل شعره الى منمنمات جمالية و بلورية لجسد المرأة ” المتحفيّ “, وبإعلاء الجسد الأمومي للمرأة الذي يتقمص صورة ” الحبل بلا دنس ” من خلال مريم العذراء , أو صورة ” الدنس ” الطهور في حدوده اللازمة للانجاب , كما هو حال أمه أديل يزبك
ولمّا كان عقل قد أعلن في إحدى المناسبات بأن المرأتين الوحيدتين اللتين أحبهما بكل جوارحه هما مريم العذراء وأمه , فإن من حقنا أن نقيم رابطاً ما بين هذا الاعلان الصريح وبين نزوع الشاعر الى أسطرة المرأة وتنزيهها عن الشهوات , بما يبدو وكأنه ذريعته المثلى لتلافي البعد الجسدي في علاقته بالنساء اللواتي أحبهن . وإذا لم يكن زعم البعض بأن الشاعر كان يعاني من الوهن الجنسي , بسبب مرض ألمّ به في صباه , بالأمر الذي يمكن تأكيده على نحو قاطع , إلا أن من المحتمل أن يكون” تعفف ” الشاعر الجنسي مرتبطاً برؤيته المثالية الى أمه , وبصورتها المنزهة عن أية شبهة شهوانية , بما شكّل عائقاً نفسياً بينه وبين الاتصال الجسدي بنساء حياته , تماماً كما كان الحال مع بطل نجيب محفوظ في رواية ” السراب ”
ومع أن العلاقة الشائكة والمعقدة مع المرأة , لم تمنع سعيد عقل من إعلان خطوبته على سعاد أبي صالح , ابنة الصحافي اللبناني يوسف أبي صالح عام 1952 , إلا أن فسخ تلك الخطوبة بعد سنتين اثنتين من إعلانها , لا بد أن يؤكد من جديد مثل ذلك التساؤل الاشكالي . صحيح أن لعزوف عقل الطويل عن الزواج أسباباً جوهرية تتصل بتفرغه للكتابة وحماية صورة المرأة الأثيرية من التشظي , فالأرجح أن من بين هذه الأسباب ما يمكن أن نسميه ” رهاب ” الاقتراب المفرط من النساء الحقيقيات , كما يتراءين على أرض الواقع السافر , أو فوق أسرّة الشهوات
لكل ما تقدم فإن من حق القارئ المهتم أن يتساءل عن ” القطب المخفية ” التي حدت بسعيد عقل , وهو في السبعين من عمره , الى تجاوز مخاوفه المزمنة من الارتباط الزوجي , وصولاً الى عقد قرانه على الشاعرة الشابة آمال جنبلاط , في الثاني من نيسان ( أبريل ) 1982 . أما من جهة آمال جنبلاط فثمة ما يثير الحيرة في إقدامها على اقترانها بعقل , رغم أن المطبات التي كانت تواجه مثل تلك المجازفة , لا تتصل بفارق السن الشاسع وحده , ولا بالتباينات الدينية والسياسية والاجتماعية فحسب , بل باختلاف الأمزجة الشخصية والرؤية الى الجسد والنظرة الى الحياة , في الوقت ذاته
وإذا لم يكن من الانصاف أن ننفي دور الاعجاب المتبادل والانجذاب الشخصي , في الاقدام على تلك الخطوة , ولو بعد سنوات عديدة من لقاءات الطرفين الأولى , والتي اعترفت جنبلاط لاحقاً أنها هي من بادر الى وقفها تحاشياً لتبعاتها المرهِقة , فالأرجح أن هذا الزواج لم يكن مجرد استجابة تلقائية لنداءات القلبين , بقدر ما كان حصيلة رهانات متباينة الأهداف , سرعان ما انكشفت هشاشتها حين لم يتطابق حساب الزوج المزهو بقدرته على الإغواء , مع حساب الزوجة الباحثة عبر الشاعر النجم عن خشبة خلاص أخيرة , تدرأ عنها شعورها الممض بفراغ العالم وخوائه وبهتانه. فآمال الشابة والشاعرة المرهفة , والمنتمية الى أسرة لبنانية سياسية وشديدة العراقة , والخارجة من زواج تقليدي فاشل , رأت في سعيد عقل النموذج الأكثر بهاء ل ” الفحولة ” الشعرية التي يتيح اقترانها به ترميماً لروحها المتصدعة , وانعتاقاً رمزياً من الزمن اللبناني ” العنّين “. وهي تبعاً لذلك , لم تر في فارق العمر الذي يفصلها عن صاحب ” المجدلية ” ما يُفسد إعجابها به كشاعر متفرد , ورجل وسيم ذي كاريزما شخصية لافتة . إضافة الى رغبتها العميقة بأن تكون ملهمة صاحب ” أجراس الياسمين ” وعروسة شعره , وهو الذي خصها عند الزفاف بمقطوعة شعرية , ليست بالقطع بين أفضل نصوصه
والأرجح أن سعيد عقل كان يرى في ذلك الزواج , إضافة الى ما تقدّم , ما يتخطى العلاقة بين طرفيه المباشرين , ليصبح مصاهرة أوسع بين طائفتي الزوجين , بوصفهما الطائفتين المؤسستين للكيان اللبناني . ولم تكن آمال من جهتها بعيدة عن مثل هذا التصور الفضفاض للعلاقة , كما يبدو من الحوار المطول الذي أجرته الاعلامية ديانا هندي مع كلا الزوجين اللذين بدت عليهما أمارات السعادة , متحدثيْن بنبرة متفائلة عن حبهما المتجدد , وعن رغبتهما في الانجاب , وصولاً الى تعويلهما المشترك على تحويل زواجهما العابر للطوائف الى نموذج للوحدة والانصهار الوطنيين . أما سعيد عقل فلم تقتصر رهاناته الخيالية على الدعوة الى تعميم ذلك النوع من الزواج المختلط , كسبيل فعال لوقف الاقتتال الأهلي بين اللبنانيين , بل كان يأمل على الصعيد الشخصي بأن تمهد له مصاهرته لإحدى أعرق العائلات الدرزية , طريق الوصول الى سدة الرئاسة في لبنان , وأن تجعل منه النسخة الجديدة والمعدلة عن فخرالدين المعني الثاني الكبير .
لكن الرياح لم تجرِ , لسوء الحظ , وفق ما تشتهي سفن الطرفين . إذ سرعان ما تسبب المسرح الضيق للعلاقة في انكشاف الهوة العميقة التي تفصل بين الزوجة الطافحة بالحيوية , والمتطرفة في تقلبها المزاجي , وبين الزوج المفرط في اعتداده بنفسه , والمحاط بمرايا أناه الشخصية المتفاقمة . إضافة الى أن نزول المرأة من سماء الأسطورة المتخيلة , باتجاه وجودها الأرضي المتعطش للّمس , قد وضعه هو المنهك من أثر السنين , أمام الفجوة الدراماتيكية العميقة التي تشطر السرير الزوجي الى شطرين شديدي البرودة والتباعد . والأرجح أن الزوج الذي سيج نفسه بمجموعة من الفرضيات المثالية المسبقة عن العالم , لم يصغ جيداً الى مكابدات الزوجة وقلقها الوجودي وحاجتها الملحة الى الاحتضان , وهي المصابة وفق الكثير من عارفيها , بنوع حاد من الاكتئاب , يرفعها تارة الى ذرى السعادة والشغف بالحياة , وينزلها أحياناً أخرى الى درك الوساوس السوداء والقنوط من الحياة . وإذ كان عقل يحدث أصدقاءه الأقربين عن السخاء غير العادي لزوجته , التي كانت تغمره بمختلف الهدايا , إلا أنه أظهر لبعضهم قلقه الشديد من تعاملها العدائي معه , والذي لم يكن يخلو في حالات الغضب والهياج الشديد من التعبيرات العنفية , لفظاً وسلوكاً , مع تنصله التام من تحمل نصيبه من المسؤولية عما يحدث
على أن الكتابة عن علاقة آمال جنبلاط بسعيد عقلل لا تستقيم , أخيراً , دون التوقف عند التباين الواضح في علاقتهما بالموت , هاجساً وتصوراً وواقعة محتومة . فعند سعيد عقل لا يحضر الموت كهاجس مؤرق أو كوقوع تراجيدي في براثن العدم , بل يحضر , حتى في مراثيه , كحالة لغوية وجمالية بعيدة عن أي ألم عميق أو نبرة فجائعية . أما موته الشخصي فقد ظل , حتى بعد بلوغه المئة , فكرة مستبعدة بالكامل , كما صرح لأحد الصحافيين , مضيفاً بأن الترياق المضاد للفناء الذي يشتغل عليه العلماء لم يعد بعيداً , وأنه سيفيد منه على المستوى الشخصي . أما آمال جنبلاط فقد ظهرت وساوسها المتصلة بالموت على نحو جلي في مجموعتيها الشعريتين ” أغنية ليلية ” و ” الغياب ” الصادرتين بالفرنسية عامي 1969 و 1974 . وقد لاحظ أنسي الحاج في مقالة له , أن نوعاً من الحزن الكاسر كان يخيم على نتاج الشاعرة التي تمتلئ قصائدها بألفاظ الموت وحاشيته, والتي ” تعرف أنها لن تعيش , لأنها لا تجد سبباً واحداً يبرهن لها أنها لن تموت “.
ومع أن من الصعوبة بمكان , تحاشي السؤال المتعلق بتوقيت الانتحار نفسه , والذي يتعدى من بعض زواياه المصادفة البحتة ,فإن صعوبةً مماثلة تعترض الباحثين عن إجابة قاطعة عن السؤال المطروح . فهي قد تتمثل في النزوع النفسي الانتحاري للزوجة المأزومة , كما في احتجاجها الصارخ على فساد الأحلام . وقد تكون متصلة بفشل المثال اللغوي ” الفحولي ” في أن يوفر للشاعرة على أرض الواقع المحسوس , ما يعصمها من السقوط , وهي التي استشعرت مصيرها القاتم في غير نص شعري , وفي قولها على وجه الخصوص
ماذا أقول عندما ضباب عينيّ سيحجب النور ؟
ماذا أقول عندما الموت يُثقل جفنيّ
لقد غنّيت الحقول والجداول
وها أخرج من الحياة , لا ذليلةً ولا فخورة
ولكنني فقط أُخفض رأسي
وأرجع من حيث أتيت