اخلاص فرنسيس
هذه قصيدة قصيرة هاجمتني دفعةً واحدة، لا أدري من أي مصدر عريق بعيد راودني في لحظات بم صرخ بي : انشرها فوراً كما هي ولا أغيّر فيها حرفا واحدا مع هذه المعلومة التي يجب عليّ أن أذكر من يقرؤني بها أنني الآن عجوز في الواحد والتسعين من عمري
من أين هذا الورد فاحَ
على سريري في المساء
وفي الصباحِ
من أين هذا العطرُ
يحملني على كتف الرياحِ
فأطيرُ نحو أرقّ ما في البال
من رَوْحٍ وراحِ
من أيّ فردوسٍ هبطتِ عليّ
يا ستّ الملاحِ
فحملتني نحو الجبالِ
وكنتُ مكسور الجناحِ
ماذا تبقّى الآن
غير الصمتِ
في الزمنِ المُباحِ
٧/ ٦/ ٢٠٢٠
شوقي بغدادي
قراءة الشاعر جميل داري
يا شاعرَ الحبِّ الذي كفرَ الذي
قد قالَ: راحْ
يا أيها الفرحُ المضمّخُ بالنواحْ
يا فارسَ الشّعراءِ
قلبُكَ في الحياةِ هو السّلاحْ
***
لشاعرنا الجميل شوقي بغدادي قصيدة قرأتها منذ زمن بعيد يتحدّث فيها عن حبه لفتاة غجرية تعيش في قمم الجبال، وما هذه الفتاة إلا: الحرية
ترى هل قصيدة اليوم هي روح تلك الفتاة التي لا تغادر الشاعر بل تزوره في الصباح والمساء لا كعادة زائرة المتنبي التي لا تزوره إلا في الظلام؟
أرى أنّ القصيدة هنا تورية كلها، لا كما نعرف التورية بين كلمتين تحملان معنى قريبا ومعنى بعيدا. والبعيد هو المقصود
إن: ستّ الملاح” ربما كانت امرأة خارقة حتى استطاعت أن تحرك مكامن الإبداع عند شاعرنا شوقي، فهو ليس الذي يؤثّر فيه إلا الجمال الذي لا يضاهى
إن المفردات الواردة في القصيدة تجعلني أجنح إلى أن شوقينا ما زال مرجلا يغلي بأحبّ امرأة في الحياة، واسمها حرية
من هذه المفردات المناسبة لهذه المرأة الحلم مثلا
الرياح. أطير. روح وراح. فردوس. الجبال. الجناح
وكما كانت روعة الاستهلال كان مسك الختام الأليم حيث يجرّ الواقع شاعرنا من خياله الرحيب
ماذا تبقّى الآن
غير الصمتِ
في الزمنِ المُباحِ
أي بعد أن تغنّى شاعرنا طوال عمره وتغزل بالحرية التي أفنى زهرة حياته سعيا وراءها فإذا كلّ ما قيل لا يجدي، فيلوذ شاعرنا بالصمت الأليم، صمت العاشق المخذول، لأنّ الزمن مباح ومستباح لكلّ من هبّ ودبّ من قراصنة العصر وحثالة الأنام
أما الجمال الفنّي للقصيدة، وغناها بالصور البلاغية فهذا له حديث آخر
قال بدوي الجبل
ووثقتُ أنّ النهرَ ملكُ يدي ففاجأني السّرابُ
تعليق إخلاص فرنسيس
أيها الورد الذي فاح، أنّى لك هذا العطر الفواح؟ أيتها المرأة الحلم
الحرية دمشقية الألوان، يا من أصابت روح شاعرنا الكبير، مست كيانها فاهتزّ، زلزلة الريح فراديس البيان، فكّت أجنحة الكلمات، فطار محلّقاً في رؤاه
هذا الزمن الذي استباح هويتنا وطعنها، وأثقل ذاكرة الشاعر، لكن ما إن لاح طيف تلك المرأة حتى راح يقفز كالأيائل على الجبال يمتشق الحرف، يلملم لها حروف السوسن من شغاف شقائق النعمان
من تلك المرأة التي حركت وجدانه؟ عمّدته بماء الورد، مزّقت عنه ثوب السنين، نثرت عطرها فجراً، وارتدّت وإياه الدهشة مساء، وتسرّبت في أوعية الدم
المرأة مجاز الحرية ربما، الحرية أنثى، والمرأة أنثى، والرياح أنثى، هذه الأنثى تغلغلت في اللاوعي تبثّ روحها في رميم العظام، تلتفّ حوله، وتقشّر عنه العمر، ترمّم القلب المشظّى، ومثل العنقاء انتفض من تحت الرماد، وعلى إيقاع حضورها أدرك معنى الحياة
الشعر حين يكون حقيقة ومجازاً لا فكاك من أسره ، ويا له من أسر ، أسر هو صنو الحرية ، فالحرية ما هي إلا نجمة بعيدة كتلك التي قال عنها ناظم حكمت
” قلبي ينبض مع أبعد نجم”