صدرت رواية “بيوت من ورق” للكاتبة الكندية الفرنكوفونية دومينيك فورتييه في طبعتها الفرنسية الأولى عام 2018، ونظراً إلى أهميتها وتطرقها إلى سيرة الشاعرة الأميركية الكبيرة إيميلي ديكنسون، ارتأت الكاتبة المصرية نهى مصطفى أخيراً ترجمتها إلى العربية (دار العربي – القاهرة). ومن أهم ما يلاحظ على هذا العمل هو أن كاتبته مررت خلاله شذرات من سيرتها الذاتية، خصوصاً خلال الفترة التي قضتها مع زوجها وابنتها في مدينة بوسطن، منطلقة من أنها تشارك ديكنسون مسألة الارتباط الحميم بمكان النشأة والشعور بالاغتراب الشديد في حال اضطرت إلى مغادرته إلى مكان آخر. وفازت فورتييه عن هذه الرواية بجائزة “رينودو” الأدبية، وهي جائزة أدبية مرموقة تمنح للرواية المكتوبة باللغة الفرنسية، أسست عام 1926 من طرف مجموعة من النقاد والصحافيين الفرنسيين، وبين أبرز من فاز بها: لويس فرديناند سيلين والكاتب الحائز على نوبل جان ماري غوستاف لو كليزيو والكاتبة الجزائرية نينا بوراوي والكاتب الإيفواري أحمادو كوروما. في هذه الرواية تقدم دومينيك فورتييه سيرة إيميلي ديكنسون في سياق تأملي يلمس أشد مشاعرها حميمية وخصوصية، ويفسر لماذا اختارت حياة العزلة والوحدة، حتى أصبح عالمها مع الوقت “مجرد بيوت قوامها الورق الذي تركته”. ومعروف أن ديكنسون احتفظت بمئات القصائد التي كتبتها في عزلتها المختارة، وبعد رحيلها عثر عليها، ومن ثم جرى نشرها في مجلدات عدة، مما أتاح للعالم أن يعرف هذه الشاعرة الاستثنائية، ويمنح اسمها ما يستحقه من تقدير.
مدينة على الورق
يسرد الأحداث راو عليم، مستعيناً في كثير من الأحيان بعين ديكنسون نفسها، حتى ليبدو وكأنها هي التي تروي سيرتها. وتتولى الكاتبة السرد في أحيان أخرى، ممررة شذرات من سيرتها الذاتية بين مونتريال وبوسطن، وما بذلته من جهد بحثي لتنجز عملها هذا، في سياق ما يسمى ما وراء السرد. وفي أحيان أخرى كانت الكاتبة تسلم زمام السرد لديكنسون نفسها. تقول فورتييه ضمن متن روايتها، إن بوسطن التي لاحظت أن كل سكانها “يشبهون جون كيندي”، ظلت في نظرها “مدينة ورقية”. وعن المرحلة التي سبقت كتابة رواية “بيوت من ورق”، تقول فورتييه في سياق المتن ذاته “ظللت، لأشهر عدة، أعيد قراءة قصائد ورسائل إيميلي ديكنسون، وأدرس الأعمال الأكاديمية التي تناولت منجزها الإبداعي، وأبحث في المواقع عنها، وعن صور لمنزل (هوستيد) ومنزل (إيفرغرينز) المجاور له، وبلدة أمهرست، إذ عاشت عائلة ديكنسون، وحتى الآن فهي بالنسبة إليَّ مجرد مدينة على الورق”! وتضيف “هل هذا أفضل أم الأفضل أن أكتب عنها بعد زيارة المنزلين اللذين تحولا إلى متحفين؟ ببساطة، هل من الأفضل امتلاك المعرفة والخبرة اللازمتين لوصف الأشياء على حقيقتها أم حرية تخيلها؟ لماذا أنا مترددة في القيادة لأربع ساعات لزيارة المكان؟ منذ متى وأنا أخاف من الغوص في أعماق كتاب؟ كلما طال انتظاري اقترب الصيف من نهايته. وسرعان ما سيتحول كل ما تبقى من حديقة إيميلي إلى سيقان جافة وزهور باهتة لكن ربما هذا هو الوقت الأنسب لاكتشافها، وليس في شمس أغسطس (آب) الجامحة”. (ص 22).
بدايات الشغف
يقع المنزل الذي عاشت فيه إيميلي من سن الـ10 حتى الـ25 في شارع بليزانت، مقابل المقبرة، إذ كانت تشاهد من نافذة حجرتها الجنازات مرات عدة في الشهر الواحد. وكانت في طفولتها شغوفة بالطيور والأزهار والأشجار والفراشات والعناكب والفطر والأصداف والفلك… والأعمال الكاملة لشكسبير، وكانت في الوقت نفسه تنظر إلى الكتاب المقدس على أنه “متن غامض”، واستمرت على ذلك بقية حياتها، على رغم أنها مارست في مرحلة منها الخدمة في الكنيسة. التحقت بأكاديمية أمهرست، التي أسسها جدها، علماً أن استقرار عائلتها في أميركا بدأ قبل منتصف القرن الـ17 الميلادي. وكان والدها إدوارد ديكنسون يتولى منصب أمين صندوق هذه المؤسسة. وكانت أمها إيميلي نوركروس تهوى زراعة النباتات. أما أختها لافينيا فكانت تهوى التطريز. والمعشبة التي جمعتها إيميلي ديكنسون وهي مراهقة محفوظة حالياً في مكتبة هوتون في جامعة هارفرد، وتم تحويلها إلى مادة رقمية ليتم عرضها على الإنترنت. تقول فورتييه “في الصفحة الأولى من معشبتها جمعت إيميلي كل ما تحتاج إليه الكاتبة من دون أن تدرك ذلك، أو ربما تدرك لوناً لصنع الحبر يمكن استخدامه للكتابة والرسم، ويكون مصدراً للضوء، ووسيلة لجذب الفراشات، ويكون بلسماً للشفاء من البرد، والزهور للشاي”. في سن الـ13 وبضعة أشهر، كانت إيميلي “لا تزال لا تعرف كيف تقول إن ملابسها تضايقها، وإنها ترفض بشدة أن تتعلم”. (ص 30). وفي ثنايا الرواية تسلم فورتييه أحياناً زمام السرد لإيميلي “لسنوات، في كل مرة نذهب إلى شاطئ البحر، كنت أحضر حفنة من العقيق الأبيض والنحاسي والأصفر الداكن والزعفران…”. (ص 32)، ثم سرعان ما يتولاه الراوي العليم مجدداً “عادت صوفيا هولاند، ابنة خال إيميلي وصديقتها المقربة…”.
مدن تتدفق
تتذكر بصوت الراوي العليم أن شقيقها أوستن حدثها عن مدينة لها موقع على الخريطة، لكنها غير موجودة في الواقع. قال لها إنها مدينة ورقية اخترعها الأشخاص الذين رسموا الخريطة وسموها ليندن، ليتأكدوا من عدم قيام أحد بسرقة عملهم. وتتذكر أيضاً أنه في كل مرة تفتح الكتاب المقدس تتوقع أن تتدفق المدن التي يتحدث عنها وشعوبها كما هي الحال في كتب الأطفال ذات الأشكال المقصوصة، التي تظهر في طيات كعقدة بمجرد فتح الصفحة لتشكل كوخاً أو قلعة أو غابة ورقية. تكتب في طفولتها رسالة إلى شخص لم يظهر بعد، ولاحقاً ستكتب آلاف الرسائل لأشخاص صادقتهم بعمق على الورق. في معهد “ماونت هوليوك للبنات” كان ينظر إليها على أنها طفلة فضولية. تمرر الكاتبة في ثنايا العمل شذرات من سيرتها الشخصية بضمير المتكلم “تزامن استئجارنا أول شقة في بوسطن مع افتتاح شركة زوجي مكتباً لها في المدينة”. (ص 42). ثم تعود مجدداً إلى ديكنسون “بمجرد أن تغلق باب غرفة نومها خلفها وتدخل إلى الصمت تبدأ في سماع الصوت الذي يتحدث، أو لا يتحدث في أعماق رأسها”.
بالنسبة إلى إيميلي الطفلة ليست فقط الكتب هي التي تتحدث عن الأشياء، بل الأشياء أيضاً تتحدث عن الكتب. في مدرستها الدينية واتتها الفرصة لتتأمل ماهية الرب: “الرب يفوق الكلمات. لا يختبئ في الكنائس. لا جدوى للبحث عنه في الأوراق المصفرة للكتاب المقدس، طبعة الملك جيمس، التي لا تقل عدد النسخ التي تمتلكها منها أسرتها عن ثماني نسخ، أي أكثر من النفوس التي تحتاج إلى الخلاص”. عندما تنظر إلى السماء لا ترى سوى السحب “إذا كانت السماء مسكناً للصالحين فهل هذا يعني أنهم يتحولون إلى طيور؟ لم يعجبها الشاعر الذي كان ضمن معلمي المعهد الديني. رأته إيميلي شخصاً متغطرساً، فيما تؤمن هي بأن الشعر مخفي تحت القشرة الرقيقة، في القلب، لمخلوقات لم تولد بعد”. تمنت أن تعيش عندما تكبر في شجرة زيزفون. وفي ظل ضجرها من أجواء ذلك المعهد رأت أن “الجحيم ربما سيكون أكثر سلاماً”.
دومينيك فورتييه، كاتبة ومترجمة تعيش في مدينة مونتريال تم ترشيح روايتها الأولى “حول الاستخدام السليم للنجوم” لجائزة الحاكم العام، وفازت روايتها “في خطر البحر” بالجائزة نفسها للرواية الفرنسية. وهي مؤلفة لستة كتب، كان آخرها “جزيرة الكتب”، وفي عام 2020 فازت روايتها “بيوت من ورق” بجائزة “رينودو” التي تعد أهم الجوائز الأدبية الفرنسية.
عن Independent عربية