(ما مدى تاثير الاقنعة الافريقية على الفن الحديث)
By: Bailey Ryan
ترجمة بتصرف :أميرة ناجي/ فنانة تشكيلية
يقول الفنان بابلو بيكاسو، ما معناه، ان كل طفل فنان والمشكلة كيف يبقى فنانا عندما يكبر فالفن الحقيقي هو ذاك الذي يعود إلى جذور الإنسان الأولى في التعبير والدهشة والبحث عن المعنى؛ وان فناني القارة الأفريقية، وهم ينتمون الى نسق قريب الصلة من الطفولة البشرية، لم تكن الأعمال التي أبتدعوها مجرد زينة شكلية أو زخارف بصرية، بل كانت تجسيدا لروح الجماعة، وتعبيرا عن المعتقد والطقس والهوية، فقد حملت الأقنعة الأفريقية معاني روحية عميقة، وامتازت ببنية تشكيلية مبتكرة تجمع بين التجريد والمبالغة التعبيرية، وهذا الحس الجمالي اللافت ألهَمَ فنانين غربيين كبارا فكان له أثر بالغ على مسار الفن الحديث إذ يمكن القول إن كثيرا من ملامح الحداثة لم تكن لتولد على النحو الذي نعرفه لولا هذا الإرث البصري الأفريقي.

كانت الأقنعة الأفريقية أولى بوادر التجريد في التاريخ الفني حين تجاوز الفنان الأفريقي التشريح الواقعي وركز على الفكرة والرمز والانفعال الملامح الممتدة والعيون الغائرة والأنوف الممدودة لم تكن تشويها بل رؤية مختلفة للجمال رؤية تتعامل مع الوجه الإنساني بوصفه وعاء للروح لا مجرد مظهر خارجي وقد استلهم فنانون مثل أماديو موديلياني هذه المبالغات الشكلية فحولوا تأثيرها إلى جماليات جديدة لا تخلو من الغموض والسمو.
ورغم أن الفنانين الأوروبيين اقتبسوا الأسلوب الشكلي للأقنعة الأفريقية إلا أنهم أغفلوا في الغالب بعدها الطقسي والروحي فاكتفوا بالجانب الجمالي دون دلالاته الأصلية بينما كانت تلك الأقنعة في بيئتها الأولى تمثل حضورا مقدسا ووسيلة لاستحضار قوى عليا أو لتجسيد رموز الحماية والخصوبة والقوة أي أنها لم تكن عملا فنيا فحسب بل أداة تواصل بين الإنسان واللامرئي
لقد حملت التقاليد الأفريقية عبر الأقنعة طقوسا متنوعة تعبر عن مفهوم الجماعة والانسجام مع الطبيعة حيث تستخدم الأقنعة في الاحتفالات والمحاكم القبلية والطقوس الزراعية واستدعاء الأرواح كانت تجسد رمزية السلطة والعدل والقوة الروحية وفي المقابل وظف الفنانون المعاصرون في الغرب هذه الأقنعة كمصدر شكلاني دون التوغل في رمزيتها مما أحدث قطيعة بين الأصل والاقتباس بين القداسة والاستخدام الجمالي
الفنان الكوبي ويلفريدو لام كان من القلائل الذين وعوا هذا البعد إذ حاول أن يستعيد عبر فنه جذور الهوية الأفريقية في ظل الحداثة الغربية مزج بين التكعيبية الأوروبية والروح الأفريقية فحول القناع إلى مرآة مزدوجة للانتماء الإنساني والذاكرة الثقافية بهذه المقاربة أعاد الاعتبار للبعد الحضاري في الفن مؤكدا أن الأصالة لا تعني العودة إلى الماضي بل استحضار روحه في رؤية معاصرة
وفي أمريكا ظهرت حركة نهضة هارلم التي شكلت نقطة تحول في التعبير الفني للأمريكيين من أصل أفريقي إذ سعى الفنانون إلى بناء هوية بصرية تعبر عنهم بعيدا عن الصور النمطية استلهم جاكوب لورانس وآرون دوغلاس وغيرهما العناصر الأفريقية من خلال الإيقاع اللوني والزخارف الرمزية كما استخدمت لويس مايلو جونز الأقنعة في أعمالها كرمز للفخر والانتماء مؤكدة أن للأفارقة الحق في امتلاك رموزهم كما امتلكها الفنانون الأوروبيون الذين استلهموها

أما في العصر الحديث فقد أعاد الفنانون المعاصرون قراءة الأقنعة الأفريقية من زوايا جديدة فجعلوها وسيلة للتأمل في واقع الإنسان وتناقضاته الفنان لوني هولي مثلا قدم القناع بوصفه مرآة للمجتمع الصناعي حيث جسد فيه معاناة العمال الأمريكيين من أصل أفريقي محولا أداة الحماية إلى رمز للكرامة والصمود بهذا الطرح تحول القناع من وسيلة للتخفي إلى وسيلة للكشف ومن رمز للطقس إلى صوت للإنسان المهمش
ويعد جان ميشيل باسكيات من أبرز الفنانين الذين احتفوا بالأقنعة الأفريقية بروح معاصرة إذ دمج بين البدائية والتجريد واللغة البصرية الحديثة لينتج أعمالا تحمل مزيجا من القوة والعفوية والاحتجاج احتفظ باسكيات بالجوهر التعبيري للأقنعة لكنه أعاد صياغتها في إطار نقدي يعبر عن هوية الإنسان السوداء في عالم تهيمن عليه ثقافة الغرب
إن الأقنعة الأفريقية ليست ماض منسي بل حقل مستمر من الإلهام والتجريب فهي تحمل جوهر الفن في طبيعته الأولى الفن الذي يسعى لربط الإنسان بالعالم وبذاته وبالمطلق لذا فإن تأثيرها لم يتوقف عند حدود الحداثة بل ما زال يمتد في الفن المعاصر عبر المدارس المفاهيمية والبصرية الجديدة حيث يستعيد الفنانون روحها دون تكرار شكلها ويستلهمون فلسفتها في التعبير الحر والصدق الجمالي
وفي زمن العولمة البصرية باتت الأقنعة رمزا عالميا للهوية والبحث عن الأصل فهي تتحدى النمط وتكسر القوالب وتذكرنا بأن الفن يبدأ من الإنسان وينتهي إليه إنها شهادة على أن الشكل يمكن أن يكون معنى وأن المبالغة ليست انحرافا عن الحقيقة بل طريقا إلى رؤيتها بوضوح أكبر
وهكذا تبقى الأقنعة الأفريقية رغم اختزالها في تجريدات غربية جسرا بين الروح والجسد بين الأسطورة والواقع وبين الجمال والمعنى إنها ذاكرة بصرية متجددة لا تنفصل عن جوهر الإنسان الذي صنعها ولا عن الفنان الذي استلهمها ليعيد صياغة العالم من خلالها.

المصدر موقع : TheCollecctor