بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
1 ــ تمهيد نظري:
ظلّ الجسد، عبر التاريخ، نقطة ارتكاز في الفكر والفن معاً، ومسرحاً لصراعات السلطة والمعنى. في الثقافة الغربية، اتخذ الجسد عند النسويات منذ سيمون دو بوفوار (الجنس الآخر) إلى جوديث باتلر (إشكالية الجندر) بُعداً وجودياً وحقوقياً وسياسياً، فصار الجسد حقل مقاومة ضد الأبوية، وضد السلطة التي تسعى إلى ضبطه وتأطيره. بينما في السياق العربي، حمل الجسد حمولة إضافية مرتبطة بالهوية الثقافية، والرمزية الأخلاقية، وحدود الدين والتقاليد، مما جعل تمثيله في الإبداع النسوي فعل اختراق للمسكوت عنه، أو مساحة تفاوض بين الحرية والرقابة.
2 ــ المقارنة بين السياقين:
_ في الغرب: الجسد يُنظر إليه كـ”نص مفتوح” يمكن إعادة كتابته، والتحكم فيه عبر الخطاب الفني والسياسي، وهو أداة تحرّر من “المعنى الواحد”. لذلك نجد عند شاعرات مثل سيلفيا بلاث وأدريان ريتش صور الجسد تتجاوز الوظيفة البيولوجية إلى لغة احتجاجية ضد التشييء وضد الصمت.
_في العالم العربي: الجسد في الإبداع النسوي ليس فقط احتجاجاً، بل هو أيضاً مخاطرة، لأنه يشتبك مع تابوهات ثلاثة: الدين، الجنس، والسياسة. لذا، حين تتحدث نوال السعداوي أو أحلام مستغانمي أو فدوى طوقان عن الجسد، فإنهنّ يفتحْنَ الباب على منطقة محرّمة يُخشى الخوض فيها. فالجسد هنا ليس “ميدان حرية” فحسب، بل هو أيضاً “ميدان قمع ومطاردة”.
3 ــ الجسد بين التشييء والتحرير:
تلتقي التجربتان (العربية والغربية) في إدراك الجسد كمعطى وجودي، لكنهما تفترقان في آليات التعبير. الغرب يذهب إلى التفكيك اللغوي والرمزي (كما عند باتلر وريتش)، بينما الإبداع النسوي العربي يذهب إلى تجربة الاعتراف (كما نجد في كتابات السعداوي أو في قصائد فدوى طوقان) حيث يتأسس الوعي بالذات عبر مواجهة المنع والكبت.
–قراءة تحليلية تطبيقية: أحلام مستغانمي وتمثيل الجسد في ذاكرة الجسد.
أ ــ مداخل أساسية:
رواية ذاكرة الجسد (1993) لأحلام مستغانمي تعدّ إحدى أهم النصوص النسوية العربية التي جعلت من الجسد فضاءً للبوح وللاحتجاج في آن واحد. العنوان نفسه يحيل على الجسد كذاكرة، أي كمخزن للمعاناة والحب والخذلان، في مقابل خطاب رسمي/سياسي يريد محو الفرد لصالح الجماعة.
ب ــ تمثيل الجسد:
الجسد ـ الوطن: جسد البطلة (حياة) يرتبط بالجزائر المجروحة بعد الاستعمار. هنا يتحوّل الجسد إلى استعارة كبرى عن وطن منتهك.
_ الجسد ـ الذاكرة: العشق الذي يعيشه الرسام خالد مع حياة ليس مجرد علاقة عاطفية، بل هو استعادة لذاكرة الثورة، حيث الجسد يصبح أرشيفاً للفقدان والخذلان.
_ الجسد ـ اللغة: اللغة عند مستغانمي مشبعة بملامس الجسد: “ملامح اليد، ارتعاش الشفاه، رجفة العيون”، وهي لا تكتب عن الجسد كوظيفة بيولوجية، بل كـ طاقة لغوية قادرة على توليد المعنى.
ج ــ مقارنة جزئية:
إذا قارنا هذا التمثيل بما تقدّمه مثلاً أدريان ريتش في دواوينها، نجد أن ريتش تستعمل الجسد كأداة تحرير سياسي مباشر ضد السلطة البطريركية، بينما مستغانمي تجعله مجازاً وطنياً/عاطفياً، يتكثف فيه الهم الشخصي والجماعي. وهنا يظهر الفارق: الغرب يُحرِّر الجسد من التابو الاجتماعي، بينما في العالم العربي يُستعمل الجسد لتفكيك العلاقة بين الفرد والسلطة والذاكرة.
د ــ دلالات التجربة:
تؤكد ذاكرة الجسد أن الإبداع النسوي العربي لا يكتفي بتقليد النظريات الغربية، بل يُعيد صياغة الجسد في ضوء السياقات المحلية: الاستعمار، القمع السياسي، وسلطة العائلة والمجتمع. إنه إبداع يحاول أن يُصالح بين الخاص والعام، بين الرغبة الفردية والجرح الوطني.
—خاتمة:
الجسد في الإبداع النسوي، سواء في الغرب أو في العالم العربي، ليس مجرد موضوعٍ شعري أو سردي، بل هو ميدان صراع بين السلطة والحرية، بين الذاكرة والنسيان، بين الرغبة والحرمان. وإذا كان الغرب قد فتح الباب أمام الجسد ليكون خطاباً متحرراً من السلطة، فإن الإبداع النسوي العربي أعاد تشكيله ليكون فضاءً لمساءلة الذات والذاكرة والجماعة معاً. ومن هنا تأتي فرادته: أنه لا ينقل التجربة الغربية بل يواجه واقعه بثمن باهظ، ويكتب الجسد كحقيقة شعرية وسياسية لا يمكن فصلها عن تاريخ القهر وأمل التحرّر.
بالطبع، يمكنني أن أُغني الخاتمة ببضعة أسطر تعمّق الرؤية وتمنحها بعداً أكثر اكتمالاً:
الجسد في الإبداع النسوي، سواء في الغرب أو في العالم العربي، ليس مجرد موضوعٍ شعري أو سردي، بل هو ميدان صراع بين السلطة والحرية، بين الذاكرة والنسيان، بين الرغبة والحرمان. وإذا كان الغرب قد فتح الباب أمام الجسد ليكون خطاباً متحرراً من السلطة، فإن الإبداع النسوي العربي أعاد تشكيله ليكون فضاءً لمساءلة الذات والذاكرة والجماعة معاً. ومن هنا تأتي فرادته: أنه لا ينقل التجربة الغربية بل يواجه واقعه بثمن باهظ، ويكتب الجسد كحقيقة شعرية وسياسية لا يمكن فصلها عن تاريخ القهر وأمل التحرّر.
إنّ تمثيل الجسد في الإبداع النسوي العربي هو في جوهره كتابة مقاومة، تحاول إعادة امتلاك ما صودر من المرأة عبر القرون، وتؤكد أن الشعر والرواية والفن ليست مجرد مرايا للواقع، بل أدوات لتغييره. وهكذا يصبح الجسد نصاً موازياً للتاريخ، يروي ما عجزت السجلات الرسمية عن تدوينه، ويعيد للمرأة صوتها الخاص بوصفه ذاكرةً ثانية للأمة، ونافذةً لحرية لم تكتمل بعد.