الاستيقاظ بعد منتصف الليل على متن سفينة في عرض البحر، أمر مثير، تجربة من نوع جديد، لا أحب البحر ولم أعشقه كما يفعل الأخرون !!
أ لأَنِّي ربيب المدن الغافية على ضفاف الأنهار الوديعة؟
أم هو خوفي الغريزي من كل مجهول وشاسع وعميق؟
والبحر مجهول وشاسع وعميق.!!
أوصدت باب غرفتي ورحت أسير بهدوء حذر، الممرات بين الغرف مضاءة بمصابيح شاحبة، دفعت الباب الفولاذي الثقيل واجتزت عتبته العريضة نحو ظهر السفينة، عاد الباب لينغلق خلفي من ذاته.
ارتقيت السلم الحديدي الى السطح. توقفت هناك ورحت اجيل النظر الى كل الجهات، مصابيح الفنارات والمرافىء البعيدة، تبدد شيئا من وحشة متاهة اليَمْ ، وتمنحك إحساساً بالقرب من اليابسة، فالأرض مثل الام، تغمر أبناءها بالدفء والأمان.
سافرت بي هذه العتمة والنسائم والنجوم الكثيرة، الى سطوح طفولتي، كنت اعشق نومة السطح، فأكون اول الصاعدين وآخر الناىمين.
أشد ماكان يبهرني، نجوم بعيدة، تومض وتنطفئ ، ثم تلتمع كاللؤلؤ في مكان آخر من سديم لا متناهِ، كم جميلة هي الطفولة؟
انني مدين لليل هذه السفينة والبحر والسماء والعتمة، فقد حفزت في داخلي أحلى الذكريات وأكثرها عذوبة، لا أدري متى سأبرأ من هذا الحنين؟
الليل عميق ،صامت، وحده الموج ينشج بحزن ازلي، ضوء القمر يسري مثل شعاع في الروح، فيوقظ فتنة الجمال وسحر هذا الليل.
تنفست بعمق وتولدت لدي رغبة في التجول على سطح السفينة، فرحت أجتاز الحبال الملتفة حول بكرات مثبتة على ارضية المركب، لمحت في الظلام شيئاً يتحرك، تواريت خلف دربزين السلم ،لأتبين الامر، وعلى الرغم من سطوع النجوم وتلألئُها، لم يخلو المكان من زوايا شديدة الدكنة، الى الحد الذي لن تستطيع فيه رؤية يديك.
الوقوف في الظلام يمنحني لذة غريبة، لذة عرفتها في صغري، حينما كنت اختبئ وأرى الآخرين، دون ان يروني، واسمع نداء أمي وهي تبحث عني.
لاح لي من مكان قريب وميض أحمر، اختفى لبرهة، ثم عاد يتوهج،. لم أتبين ماهيته، فكرت ربما تحديقي المستمر بعتمة البحر وسحر تموجه، يهيء لي مثل هذه التصورات؟
تطلعت في ضوء ساعتي لمعرفة الوقت، كانت تشير الى الثالثة وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل..
المسافرون مرهقون من عناء يوم طويل،آووا إلى مهاجعهم بعد العشاء واستسلموا للنوم، ربما أنا والقبطان المسيتيقظين الوحيدين هذه الساعة! لكن الوميض الأحمر توهج مرة أخرى ليكشف عن وجه شخص يقرفص قرب كومة سلاسل حديدية، شكلت تلاً صغيراً، بإمكان شخصين التواري خلفه.
لا أدري ما الذي دعاني الى الدنو، لمعرفة مايجري، لم يكن الفضول وحده، بل هاجسا ممتزجا بالرهبة والتحدي دفعني بإتجاه ذلك الشيء الغامض.
جفلت لرؤيتي وإستوت واقفة بجسدها الممشوق، رمت عقب سيجارتها المتوهج وقالت:
منذ متى وانت هنا؟
قلت: منذ وقت لا أعرفه ، فسحر الليل هنا، يُفقد الوقت معناه ولا أريد أن أعرف هذا الوقت.
هل كُنت تتبعني؟
أتبعك؟! إستفزني السؤال، ودعاني الى الدنو منها أكثر لرؤية ملامحها، فمن يطرح مثل هذا السؤال، لابد أن يكون قد رآك أو يعرفك!
صدمتني المفآجأة، تراجعت خطوتين ، إنها هي.!!
ما بك؟ هل ذعرت لمرآي؟ كنت تتطلع بي طيلة الوقت، في المطعم في الممرات، على السلالم وليس مستبعداً، إنك راقبت صعودي الى السطح فتبعتني !
أبداً، لم اكن أعلم بوجودك ولم أتبعك، صحيح أنك لفتِ نظري، لكن الأمر لايصل الى حد تتبعك ومراقبتك.
– هل أفهم بأنك لم تنتبه الى وجودي هنا؟!
كلا، لم أنتبه، شاهدت توهج جمر السيجارة، فدنوت لأتبين الأمر !
أعتذر، إن كنت قد قطعت عليكِ وحدتك وتأملك، أتمنى لكِ ليلة هانئة، سرت بضعة خطوات، فصاحت:
قف، أرجوك، دنت مني وقالت:
هل إلتقينا من قبل، خارج هذه السفينة؟ لدي إحساس بأني أعرفك، أو ربما تشبه شخصاً أعرفه!
وكيف تظنين بأني قد أشبه شخصاً تعرفيه ونحن نغطس في ظلام يحيل بيننا وبين رؤية أيدينا ؟
رأيتكَ في المطعم مع رفيقك أو قريبك صاحب العينين الزائغتين..
ضحكت، إنه عدنان، شاب لطيف تعرفت عليه في الميناء، لكن أخبريني كيف عرفتِ ملامحي وأنت لم ترفعي عينيك عن المائدة؟
ضحكت هي الأخرى وقالت: تطلعت صدفة في إتجاه طاولتكم، فأصبح وجهك أمامي بالضبط، في تلك البرهة الخاطفة، إنتابني هذا الشعور وهوأننا قد نكون إلتقينا، أو أنك تشبه شخص أعرفه، كذلك لمحتك وأنت تعود بأكواب القهوة، من البوفيه.
هل تقيم في دبي، أم كنت في سفرة قصيرة؟
لا، لقد كانت محطة فقط، انا قادم من هولندا، لا يوجد طيران الى بغداد، والطريق البري من الأردن أو سوريا غير آمن، لدي صديق يقيم في أبو ظبي، دعاني الى زيارته وأخبرني بأن خطاً بحرياً أستحدث، بين دبي والبصرة والرحلة فيه ممتعة وسعرها مناسب، وقد كان محقاً، فمنذ ساعة دخولي صالة الميناء الى حد هذه اللحظة، وانا في سعادة كبيرة، سعادة لا يعرفها سوى من أبتعد قسراً عن أهله ووطنه.