إخلاص فرنسيس
من مجموعتي القصصية
ظل النعناع
سيكتمل القمر، أنين المطر الغزير هل هو مصادفة؟
المطر مرتبط معي بأحداث غريبة مند الطفولة، الزرع الحياة الربيع الزهر والاستمرارية في الحياة، الغابة المطلة من نافذة مطبخ بيتنا القديم كانت ترقص بعد ليلة ماطرة تحت نور القمر، تدبّ الحياة في أوراق الشجر، وتنمو الأزهار في أزقتها الضيقة محاولًا أن يجد طريقه نحو الشمس وكأنه يطلب الدفء بعد سبات عميق إلى جانب جذع الشجر العملاق. تذوب قطرات الماء على خدّ الأوراق، تبتسم فرحاً، لم يفضل من تلك الأماكن إلا ما ندر، لكنها بقيت في ذاكرة روحي، تستدعيها زخات المطر كلما هطل أو شعاع القمر في ليلة بدر، فتغزو روحي رهبة وكأني داخل كنيسة أمام المذبح، وجوقة الكهنة تتهيأ للعبادة
تصدح الموسيقا، ويتردّد صداها في أنحاء المعبد، ويظهر من بين الشجر شبح تسبقه وقع خطواته، يلتقط أنفاسه وكأنه آت من سفر بعيد يعتمر قبعة خضراء
صوته أشبه بصهيل الشجر، لقد حان موعد اللقاء، أسرع الخطى يضرب الأرض بعصاه بعد أن جمع ما تيسّر ليوم غد، فالجوّ بارد، وضيفته لم تعتد البرد والثلج. خلع ثيابه التي بلّلها المطر، وأخذ حمامًا دافئًا، وراح يحلق ذقنه، وهو يرقص فرحًا في أرجاء الغرفة، يطيل الوقوف عند ثنيات وجهه، ويغني “أغدًا ألقاك يا خوف فؤادي من غدي” بصوته الرخيم، ويبتسم قليلًا ثمّ يدير راسه ملامسًا خصلات شعره التي غزاها الشيب، وباتت تلمع في ضوء اللمبة الشاحب أمامه، يمرر أصابعه بينها، ويصمت فجأة مع مسحة أسى تسيطر على نغمة صوته متسائلًا بينه وبين نفسه في صمت بأّي عين ستراه؟ وكيف سيكون اللقاء؟ هل هو في حلم أو في علم؟ هل حقًّا سيلتقيها، ويصافح يدها؟ لقد تجاوز عمر المراهقة، لكن روحه ما زالت فتية، فيبتسم لتلك المشاعر التي تغزو صدره، وتسري في عروقه، فتتسارع نبضات قلبه، وينتفض كلّ شريان في جسده، وتحيا الأجزاء التي كان يعتقد أنّها ماتت من زمن، ينتشي، يطربه شبق اللقاء، فيعاود الغناء أغدًا ألقاك، وقالت لي بكرا
ما إن ينتهي من حلاقة ذقنه يرشّ بعض العطر، ويتّجه إلى خزانة الملابس، لا بدّ من انتقاء الطقم المناسب، هي تحبّ الأزرق لا بل الأخضر، لكنّها تعشق الأحمر والأسود والكحلي، يسبر بيديه على القمصان المعلقة منذ زمن، ماذا يرتدي؟ البني يتأمّل ذاته، يسألها وكأنّها مرآة أمامه ثمّ يخلعه مجرّبًا الأزرق فالأخضر، ويخلعها، يا لحيرة لم يعهدها كلّ الألوان متشابهة في الظلام، يتعرّق جسده من شدّة الانفعالات، يمسح جبينه، ويغلق باب الخزانة بعد أن استقرّ رأيه على القميص الأبيض والبنطال الكحلي، أو لربما يقرّر صباحًا يجب أن يعدّ بعض الطعام، فهو لم يأكل منذ أمس وجبة كاملة، لكن هل هناك ما يكفي من الفاكهة؟ هل يطهو لها الطعام المنزلي أم يدعوها إلى الخارج، أوفت لماذا كلّ هذا الاضطراب؟
صبّ لنفسه فنجانًا من الشاي، وعاد إلى التأمّل، يسير بأطراف أصابعه على وجهه، يُحصي عدد التجاعيد والخطوط، لا يعرف هل يحزن أو يفرح لهذا اللقاء؟ تضارب المشاعر ترهق فكره وروحه، يحاول الغناء من جديد “يا خوف فؤادي من غد.”
يحتسي الشاي، يستلقي على الكنبة ثمّ يجلس، يطرق رأسه بين يديه، ينفث دخان سيجارته في فضاء الغرفة دوائر دوائر تمامًا مثل الدائرة التي غاصت بها أفكاره. دوامة لا يستطيع الخروج منها، كان كلّ شيء يسير رتيبًا على وتيرة واحدة، لا فرق بين الليل والنهار، بينه وبين أيّ مخلوق بهيمي آخر، يأكل، يشرب، يدخّن سجائره، يغنّي وحدته كثيرًا، وينام إلى أن ضربه ذلك الإعصار الأنثوي في صميم حياته، لم يستطع الإفلات وإن لم يكن يحاول البتة، بل استسلم لهذا الشعاع الذي أضاء بصيرته، وجعل لحياته قيمة ومعنى، وما الحياة دون الحبّ إلّا جرعات الموت البطيء اليومية
يرتدي البيجاما الزرقاء على حدّ قول البائع، يتحسّس طريقه، يندسّ تحت الأغطية في سريره البارد، يستدعي صوتها من أول يوم عرفها إلى اللحظة هذه، يرتجف جسده، يحاول النوم، تعاوده أشباح الماضي، صوت المدافع، أزيز الرصاص، صراخ الجرحى، ارتطام الأجساد فوقه، الأنين ورائحة الدم تملأ رئتيه، يحاول الصراخ، يتسرّب القلق إلى قلبه، يطرده بجرعة زائدة من المنوم، أتى الغد، ولم يستيقظ