قصة قصيرة للكاتبة السورية مي عطاف
يا له من تصرف غبي! أية حماقة أرتكبها وأنا في هذا المكان الذي حشرت نفسي فيه طواعية تحت قسر الرغبة لمعرفة ما التالي؟ لماذا أعاند نفسي على أمر أتحايل به عليِّ بالكذب والادعاء.. الوقت يمر وجسدي المنكمش بات منهكا
رغم ضيق المكان ورغم مشاركة الذكريات لكن البرد شديد هنا، بمساحة متر مربع فقط لا غير، والهواء قد تبدل نقاؤه إلى تلوث.. هل تتنفس الذكريات مثلنا وتطرح كما نحن غازها السام في الأجواء.. أكاد أختنق لكنه عنادي اللعين من جعلني أكابد هذا الضيق لأرى خاتمة القصة. أضحك مرات على نفسي وربما ستضحكن مثلي أو بعضكن ستقول ما أغباها وأخريات سيشفقن على وبعضكن لن تكمل قصة امرأة في متر مربع.. وأخريات قد يتأملن بحزن سجنهن الذي لا مناص منه والذي يكاد يشابه فعلتي هذه
ما زلت عالقة حيث الوقت لا بدّ أن أملأه بما ينسيني ألم الظهر من جلستي التي تلتحم بها ركبتي في صدري ..الوقت الذي اتخذ معيارا مختلفا عن الثواني ووضع بديلا آخر هو السلحفة، الوقت سلحفاة معمرة وسلحفاة عجوز وسلحفاة فتية وسلحفاة صغيرة.. لكنه سلحفاة. سأبدل السلحفاة العجوز بأخرى فتية بأن أعيد ترتيب الحوادث والمشاعر مرة أخرى وبطريقة أخرى. أبدأ قصتي باستهلال شعري صريح فاقع عن الانتظار، اسمحن لي، لا بد من الضحك إذ وجدت أنه مازال في روحي بعض مقدرة على الاستهلال الشاعري
الانتظار
شجرة وحيدة على تصالب جهات الريح
تأتيها رياح شمالية محملة بخريفها.. تذبل.. تيبس.. قد تموت
تهبُّ رياح جنوبية تخبئ بذرة في شتائها.. يا له من شتاء قارس
تتنسم رياح غربية تفرح بثمرة حقيقي نضجها أو بثمرة كاذبة
تلاقيها رياح شرقية فتلبس ربيعها وتقول ليتني أزهر.. ربما أزهر.
أحببته وكنت أشيح بقلبي عن تصرفاته التي يزنّ عليّ عقلي أنْ انتبهي للمؤشرات فأوارب ذاتي وأدّعي أنّ المؤشرات صدفة سِمتُها أنها لا تتكرر، وكانت تتكرر، وفي كل مرة أقول لسلوكه أسباب تجتمع صدفة.. هو ليس ما تبدو عليه تصرفاته فقد خلعته عن سلوكه وأحببته. قلن لي صديقاتي الحب لعنة فعاندتهن وقلت كل حبّ هو حالة خاصة، وقلن أيضًا انتظار الحبيب لهو ألذّ وأقسى انتظار.. الآن وأنا في متر مربع أقول: أي مريضات نحن إذ نجمل الانتظار ونصِفَه باللذيذ.. فأنا بين براثنه موجوعة الرقبة ينال الخدر من رجلي وظهري وألم كمطرقة تدقّ رأسي، ومعدتي التي التهمتْ بقايا نتف طعام البارحة ليلا.. بدأت تلتهم ذاتها
أن تنتظر على موقف الباص حافلة أو تنتظر رسالة عمل أو موافقة على مشروع أو تترقب الكلمة الأولى من طفلك، إنه انتظار غير مركّب.. مشاعر أحادية الرياح بدرب واحد تنتهي بالفرح والسعادة أو بالحزن. أما الانتظار المتعدد الهبوب بالمشاعر فذاك ما يجعلك تدور على نفسك ككلب يعض ذنَبه، لا ذنْب لك فلستَ ملْك نفسك حين تحب.. الملكية ثلاثية الأطراف فلو خطر في بالك أن تغادر وفعل حبيبك مثلك، لكن هناك شأن الحب وكلمته الفارقة. في الانتظار يتبدد اليقين ويسكنك حزنان واحد لقلبك والآخر لعقلك ولأجلهما تبكي الروح
يبدو لا بدّ من كثرة الكلام والتفلسف ليكون لقصتي هيبة ووزن عكس ما أشعر به الآن وأنا في متر مربع منطوية مهملة ومتروكة كالعادة، أصنع سيناريو وأخرجه بممثلة واحدة هي أنا مع أن الحب نهر بضفتين. راهن كثيرون على استمرار حبّنا، ما لم يعرفه الأخرون أنّي كنت أجدّف متعبة لأحافظ على موازاة ضفته بقربي، وكنت أبادر بحبه وأتجدد له بصور مختلفة بلباسي وشعري وحتى بطريقة دلعي.. زدت من حركات المراهقة معه والولدنة واخترعت ألعابًا وألغازًا بيننا لأجنّب الحب الخمود
اليوم تشاجرنا لسبب تافه، فغالبا ما يترك شعر لحيته التي يقصها ويشذبها في المغسلة وكل مرة على تنبيهه دون جدوى ثم أنظف المغسلة بطيب خاطر.. اليوم سلك شجارنا طريقا وعرة وراح يرمي بي صوب حفرها العميقة.. كان يتصيد لي كلما نهضت. لم يحزنني كلامه وفعله.. وراح ألمي لمكان بعيد في داخله لماذا يفعل ذلك ؟
اتخذ شجارنا طابعا تصاعديا، ابتدأ بالمغسلة وانتهى بأني امرأة أهمل شؤون البيت وأهمله وأني نكداء وسطحية وخرقاء كفتاة مراهقة. لم أصدق ما سمعت منه، فعلا صوتي وخرج حزني مندهشًا: ما أكذبك!؟ لم أقل يوما كلمة تجرحه ولم أعاتبه مرة إلا بسماح مفرط، ويعلم كم أحبّه لكنه صرخ في وجهي: أنت البهيمة والكاذبة
سمع صوت بكائي في الغرفة ولم يقل كلمة.. بل أكمل ارتداء ملابسه وخرج عند الواحدة ظهرًا.. أغلق الباب وراءه بقوة حتى اهتزت الشبابيك وارتجت معها نوافذ يقيني بالحب.. أكملت نهاري كما العادة جهزت الطعام الذي يحبه هو لا أنا، سأعتذر منكن قليلا لأضحك علينا باستغراب، فالعادة درجت على أن تطبخ المرأة طعاما يحبه الرجل حتى لو تكرهه، قصدت الطعام لا الرجل! وقلت لا بد أن يعود عند موعد الغداء وتابعت عملي بترتيب البيت وتنظيفه وكويت ثيابه وغسلت له قميصه الذي لا يوضع في الغسالة وبالمعية غسلت جواربه.. تحممت وجهزت نفسي لنخلق طريقا بلا حفر ولا حصى مدببة
وانتظرته حتى برد الطعام ولم يأت وقلت لا بد أن يأتي ربما بعد حين، لا أعرف صدقنني كيف لمعتْ في رأسي فكرة غريبة أن أغيب عن البيت دون خروجي منه لأرى كيف سيتفاجأ بغيابي وكيف سيتصل بي وأفرح بلهفته التي ستشع في البيت وتجعل طريقنا الذي مهدته له مزروعا بالقبل والعري والحب. خبأت ثيابي التي أرتديها حين خروجي وكذلك جزمتي وحقيبتي وحقيبة سفر رميت بها على عجل بعض الثياب والأحذية لأوهمه أني تركت البيت ..خبأتها في واحد من خزن المطبخ الذي يحوي فناجين وصحون أعدتُ جمعها بعد أن كسرها ..فقط لأن أصابعه مرت يوما عليها. ارتديت له على عجل قميص شيفون أسود قصير وحملت هاتفي الخلوي صامتا وسماعات الأذن.. ثم دخلت في خزانة الملابس في الجانب الصغير الذي لا يتعدى متر مربع.. أزحت الثياب المعلقة واختبأت وراءها وتركت الملابس المهملة في قعر الخزانة وطويت نفسي فوقها
تركت باب الخزانة مفتوحا قليلا لأتنفس ولم أشعر حينها بالبرد فالفكرة كانت حامية والعجلة بتنفيذها أشعل حرارة التوق لما بعد لهفته على.. ورحت أصغي السمع لصوت السيارة ولوقع الأقدام على سلم البناية.. وراحت مقدرتي بتمييز صوت سيارته ووقع أقدامه تختلط على، ففي وقوف كل سيارة وصعود أي أحد للبناية أسرع بإغلاق باب الخزانة وأنتظر أن أسمع صوت المفتاح بالباب، وحجم خيبة الأمل تكبر والبرد يدكّ ضوعي وجسدي يرتجف وذقني تتكتك بسرعة.. ليت الوقت يسايرها في السرعة
الوقت سلحفاة معمرة يمر بهدوء يريدني أن أصغي لحكمته لكنه عنادي بالبقاء مرتجفة وأكاد أختنق من العتمة التي بدأت تهبط على الغرفة.. فتحت هاتفي ورحت أقلب صورنا معًا، نبدو كزوجين مغلفان في الحب.. تلك الصورة التي يضمني بها بشدة جاءت بعد أن وشوشت له في سهرة مع الأصدقاء كي يضع يده حولي.. وتلك التي يتطلع واحدنا للآخر ويكاد العشق يلتهمنا كان يقول لي متأملا: رح تبقي حمارة؟ ردا على سؤالي لصديقه عن زوجته الثانية. وأما هذه الصورة التي أقف بجانبه يمازحني ويشد شعري وينظر بحب.. فهي الصورة التي أعدت طباعتها وكبرتها في رأسي
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
قرأت له برجه لهذا اليوم.. اتفقت الكواكب على أن مفاجأة غير متوقعة يحضرها أصحاب هذا البرج.. وضحكت حين تخيلت انهماكهم بصنع المفاجأة ..وأنهم يتحركون خلسة وبررت تأخره، لكن الوقت طال ولم يأت. لم أت بحركة خوفا من حضوره المفاجئ وتهيأ لي بسكوني هذا أن الخزانة قبر وأني امرأة قاب قوسين جثة أو أدنى، كلما رغبت بالنهوض والخروج.. قلت لم يبق وقت طويل لا بدّ سيأتي قريبا للبيت. لكن الليل انتصف وأنا تجمدت من البرد. ظهري كسره الانطواء.. وتحولت رغبتي في لهفته إلى رغبة في قلقه أن أجعله يستنفر لأجلي.. سأذيقه بعضا مما أنا به من وجع.. سأجعله يسأل كل قريب وكل المشافي.. سيبحث عني ليلا في المقاهي والساحات
شردت في التكهن فنبهني صوت المفتاح في الباب.. وأخيرا جاء لكن لهفتي ضاع معناها وكريح فقدت بوصلتها تاهت رغبتي. دخل وأشعل ضوء الصالون، وضع المفاتيح في الباب وأغلقه.. سار باتجاه الحمام.. صوت ماء.. عاد للصالون.. صوت التلفاز.. مشى إلى المطبخ يبدو أنه شرب ماء.. صب كأس ويسكي كعادته قبل النوم. أسمع تناثر المكسرات في الصحن.. عاد للصالون وأرخى جسده على كنبته المعتادة. قلت لدموعي: لا تنهمري، ربما يعتقد أني نائمة في سريري ولا يريد إيقاظي
بررت لأخفف ألمي المصاب بخيبة عالية وحاولتُ النهوض فسمعت خطواته قرب غرفة النوم.. لا بد أنه رأى السرير مرتب.. سيبحث الآن في البيت ثم ستبدأ سلسلة قلقه
كأنه يقف قرب الباب.. كأنه يشلح عنه ثيابه ويتناول عن المشجب بيجامته.. كأنه يندس في السرير وضوء هاتفه يسطع على وجهه بلامبالاة.. كأن شخيرا يعلو في الغرفة! أية حماقة أرتكبها؟ جسدي أصابه الشلل، وصوتي امتدّ بي عميقا يصرخ كأخرس.. كأن المدفن الذي لجأت إليه.. دفنت به كل رغباتي بحبه ولهفته وقلقه.. ولاحت في عيني رغبة غريبة ما اختبرتها يوما.. القتل