خالد خضير الصالحي

1
تستمد الرسامة المصرية رندة فخري، في تجربتها الفنية بالرسم، سرديات موضوعاتها من مصدرين غائرين هما: أولا، حكايات يختلقها، ويهندسها لا وعيها الفردي، وثانيا، سرديات تستمدها من الحكايات الغائرة المنبثقة من لاوعي الشعب المصري، وكأنها تمارس عملية (حفظ)، بمعنى تخزين لهذه الحكايات، في متحفها الشخصي، عبر تحويلها الى (صورة)، وهو ما درج عليه رسامون عديدون اهمهم الرسامان الشاعران: وليم بليك، وجبران خليل جبران، والرسام مارك شاغال، الذي كان الرسم عنده لي سوى ملء للسطح التصويري بحكايات يستمدها من الكتب المقدسة، وهو وما يفعله الجنس البشري حينما لا يجد طريقة لحفظ تاريخه غير ان يحوله الى حكايات، وقصص، وتاريخ مدون.

2
لا تكتفي رندة فخري بهندسة ميزانسين عناصر اعمالها فقط؛ بل هندسة ميزان من نوع اخر، انها عناوين اعمالها، والاهم عناوين معارضها، فقد اقامت مرة معرضا ضم 25 لوحة بالألوان الزيتيه ووسائط متعددة، وعنونته (السرداب)، وهو المكان الأكثر ملائمة لوصف مسرح (عمليات) اعمالها حيث تنعزل كائناتها في سراديب غائرة، وعنونت معرض آخر بعنوان (مرافئ)، و(ثلاثية القمر) و(نبضات إنسانية).. وهي عناوين تصبغ تجربتها الفنية بأجواء البعد والحزن والعزلة، ومحاولة اخفاء الجراح التي تركها الزمن في النفس ولم تندمل بعد..
3
تستل رنده فخري عناصر تجربتها الفنية من مما يسميه الناقد العراقي (شاكر حسن ال سعيد) بـ(المتحف البصري) وهو مرجل كمبير جمعت الرسامة محتوياته سنين طويلة فانطوى على: عدد كبير من الطيور، والحيوانات المختلفة، الاليفة منها والمتوحشة، ومن الكائنات الغرائبية التي اطالت مكوثها في تجربتها فكانت تتبادل الادوار فيما بينها، وتشكل حضورا مهما في هذه الاعمال.. ويلمس القارئ ان عناصر اعمال رنده فخري هي كائنات مدركة، تشعر وتسمع وترى، سواء كانت كائنات حيوانية او (كائنات) جامدة، بل هي لا تكتفي بالحياة انما تدخل في علاقات مع العناصر الأخرى لتشكل (مجتمعا) له اجواءه واعرافه وقوانينه الصارمة التي تحكم تلك العلاقات.. ان اغلب ما تنطوي عليه مشاهد اعمالها: مشخصات انسانية، وحيوانية، ونباتية، ووجودا لأشياء جامدة (ستيل لايف)، ليتشكل من كل ذلك واقع جديد مختلف ناتج عن تفاعل عناصر اللوحة بفعل (التشاكل الصوري) الذي ينتجه تجاور عناصرها المادية، وكلمات، من استعارات شاعرية، وهو تفاعل (كيميا/شكلي) تستند عليه مدارس الرسم والفوتوغراف (كافة) بدرجات متباينة، فكل الصور: لوحات او فوتوغرافا، تنطوي حتما على انزياحات استثنائية سواء بـ(المادة)، او بالدلالات، فكانت الانطباعية ليست الا تحررا في تقنيات التلوين الكلاسيكية، بينما كانت التكعيبية تحررا، من سطوة السطح الواحد، وتعددا للأشكال المتناثرة دونما تقيد بثبات زاوية النظر، فيما اختصت السوريالية بغرائبية: موضوعاتها، ودلالاتها، وتراكيبها، فكانت تستعير اشكالها من مختلف مدارس الفن بحرية ويسر، فكان ان وظف ريجارد لندنر التقنيات التكعيبية لينتج موضوعات ملغزة، وغرائبية، ووظف سلفادور دالي وماكس ارنست ورينيه ماغريت الرسم (الواقعي) ليركب اغرب التكوينات من عناصر الواقع المألوفة، في حين جمعت رندة فخري الاشكال الواقعية، والاجواء والتراكيب الغرائبية معا، فكانت تجمع الاشكال البشرية، مع اشكال مملكة الحيوان من اجل احداث تفاعل شكلي بينها لتنتج واقعا حلميا ينطوي على شعرية لا حدود لها.

4
ان اعمال رنده فخري اعمال انثوية بامتياز؛ فمتلقوها يشعرون منذ لحظة التلقي الاولى بانها صادرة عن فنانة مرهفة وحساسة، ترك عليها الزمن اثاره فانزوت عن العالم الخارجي بكل مثالبه، واتجهت الى حياة داخلية تلملم فيها أطراف وجودها، وشتات وبقايا كائناتها المختلفة التي تربيها في تجربتها الفنية او تركبها بإبداع خلاق لا حدود لجرأته. ن
5
تستند رندة فخري، في انتاج اعمالها الفنية، على صور الواقع ذاته، او ما نسميه الرسم الواقعي؛ لتعيد اختيارها، وتركيبها، في كل مرة بهندسة، وشكل مختلف، مرة باختيار قد يكون (عقلانيا)، ومرات بهندسة قد لا تكون عقلانية، ورغم واقعية اشكالها، فإن الهدف الثابت والمتحقق عندها، هو انتاج سرديات فنطازية، واجواء ملغزة، تذكرنا حينا بأعمال ريجارد لندنر وأجوائه الملغزة، وتذكرنا حينا اخر بماكس ارنست، او رينيه ماغريت، بغرائبية تراكيبهما، ولكن الامر الحاسم يبقى عندها ليس في طبيعة عناصرها البصرية الملتقطة من الواقع، انما بنمط العلاقات التي يخلقها التركيب الغرائبي لتلك العناصر التي تأسس منها المشهد.
تؤثث رندا فخري مسرح اعمالها تأثيثا محكما بهدف انتاج فعل درامي ينتج إمكانيات تأويلية تبث مضامين متجددة بطريقة لا نهائية ناتجة من الاستعارات التي تبثها التشاكلات الصورية الناتجة من التفاعل الشكلي بين عناصر مسرح اللوحة.
قلنا، ان الانطباعية كانت تحررا من سلطة كلاسيكيات الالوان، وكانت التكعيبية تحررا من قوانين المكان الصارمة، بينما تبدو تجربة رنـــــدة فخـــري تحررا من تزامنات الامكنة، فكانت الرسامة تمارس اقصى ما يتيح لها خيالها من امكانيات الجمع بين اي من عناصر اللوحة.
6
كتبت عنها ميموزا العراوي: “يعثر مشاهد لوحاتها على ما يشبه نبرة واحدة لكل الألوان التي تستخدمها. يطغى اللون الرملي/ الترابي بشكل كبير، وما من لون استخدمته الفنانة، حتى اللون الأزرق، إلا وخضع إلى وشم الرمل والغبار الصحراوي والكلسي على السواء. مرد ذلك على الأرجح إلى كون الفنانة مصرية مرتبطة بطبيعة الأرض وحرارة الأجواء المسكونة بذرات الرمال. يساهم هذا اللون أي اللون الترابي، ليس فقط في تدرجاته العديدة، بل بتشعباته الكثيرة وصولا إلى الأحمر النحاسي والأخضر العفني، بإرساء جو من الهدوء حتى في أكثر اللوحات التي تعلو فيها النبرة العاطفية. وتكمن المفارقة أن الفنانة كثيرا ما تظهر مرتدية ملابس ملونة تنصف فيها كل الألوان حتى البرتقالي والأحمر والأخضر الفاقع”.
7
تقول رندة فخري: “برجي ترابي. أعشق الأرض وترابها وكل ما يخرج منها وكل ما تحتويه من مقومات وجود وعناصر. وشخصيتي تجمع تناقضات كثيرة. تجدين عندي ليس فقط الألوان القوية إلى جانب الألوان الهادئة، بل الهدوء خلف الألوان القوية والزاهية. خليط يجعل الرغبة والقدرة على تشكيل اللوحات لا تقلان أهمية عن تعطش الألوان في التحاور وتبادل الأدوار حتى يطغى السكون الغامض. السكون الملتبس”.
4
تعمل رنـــــدة فخـــري، (من مواليد القاهرة)، حاليا أستاذا مساعدا في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان 2019، وهي حائزة على درجة الدكتورا في فلسفة التصوير منذ عام 2011، واقامت مجموعة من المعارض الفردية الخاصة مثل “مرافئ” 2021 , “السرداب” 2018 “وفينا..زهور” 2017″ , “ثلاثية القمر ” ” نبضات انسانية ” … العديد من المشاركات في الفاعليات والمعارض الجماعية الخاصة والعامة بمصر وخارجها منها الدورات المستمرة للدولة، والعديد من الجوائز والمقتنيات داخل مصر وخارجها.




