
لم تكن كل الحانات مجرد أماكن للشرب، بل كانت بعضُها مكتباتٍ بلا رفوف، ومسارح بلا جمهور، ومصحات للذين أوجعتهم الأسئلة ولم تجبهم الحياة. في الحانة القديمة، لم يكن كل الداخلين عابرين نحو السكر، بل بعضهم كان يعبر نحو ذاته… على استحياء.
-المثقف الذي ضاقت به المنابر:
كان بعض الكتّاب والشعراء والفنانين في الحانة، لا لأنهم مدمنون، بل لأنهم منفيّون. مُنع من النشر، ضُيق عليه في الصحافة، لم يجد من يستمع إلى أسئلته… فوجد في الحانة ركنًا لا يحكم عليه أحد، ولا يسأله عن بطاقة عضوية.
جلس، وكتب على المنديل، قرأ نصًا على ضوء خافت، بكى أمام لا أحد، ثم خرج وكأن شيئًا لم يكن…إلا ما سُجِّل في ذاكرة كأس مقلوب.
-كؤوس فارغة… لكنها ممتلئة بالقصص:
على الطاولات، كان الشعر ينساب دون تفعيلة، وكان النقاش السياسي أكثر عمقًا من نشرات الأخبار، وكانت نِكات اليأس تضحكك حتى البكاء. في الحانات، اكتُشف شعراء مغمورون، وانكسرت صداقات، وتشكّلت تحالفات عابرة مثل دخان السيجارة. كل مساءٍ فيها كان نصًا غير مكتوب.
-منفى داخلي… بلا تأشيرة خروج:
للمثقف العربي، في كثير من العواصم، لم يكن المنفى دومًا في الخارج، بل كان في الداخل: في شارع ضاق عليه، وفي منبر صُمّت فيه الآذان، وفي كتاب مرفوض، وفي حانةٍ فهمت سكوته دون أن تسأله. لم تكن الحانة “هروبًا”، بل كانت أحيانًا مساحة للتنفس، للفضفضة، أو للاحتماء من زمن لا ينصت.
-النساء في الحانة… صوتٌ آخر:
ولم تخلُ تلك الحانات من نساءٍ يشبهن القصائد، بعضهن شاعرات لم يُنشر لهن،أو فنانات مرفوضات، أو عاشقات هاربات من قسوة البيوت. كان صوتهن جزءًا من الديكور، وحضورهن تحدٍ ناعمٌ لصمتٍ ثقيل، وكانت أحاديثهن أحيانًا أكثر نضجًا من رجال يتظاهرون بالفهم.
-الحانة الحديثة… بلا أدب ولا أدباء:
اليوم، تغيّرت صورة الحانة كما تغيّر المقهى. صار أغلبها مجرد موسيقى صاخبة، وضوء ساطع، ومشروبات بلا حكاية. قلّ أن تجد كاتبًا يدوّن شيئًا في الزاوية، أو نقاشًا جادًّا عن معنى الموت أو الشعر، أو حتى صمتًا حزينًا له نكهة الاعتراف.
لم تعد الحانة مكانًا للسؤال، بل فقط للهروب.
-خاتمة:
في “الزمن الجميل”، كانت بعض الحانات مساحات ثقافية غير معلنة، يجتمع فيها المنفيّون داخليًا، ويكتبون على أرواحهم ما لا يجرؤون على نشره. ربما أخطأوا أحيانًا، لكن لم يكن أحدٌ منهم فارغًا. فخلف كل كأس، كانت هناك قصة، وخلف كل تنهيدة، كانت هناك أمةٌ تصمت.