الكاتب مروان ناصح
(في سورية… حيث تُحرَّر القصيدة تحت ظل الصورة)
في “الزمن الجميل”، لم تكن المجلات الثقافية والفنية نافذة حرّة كما حلم بها القرّاء، بل واجهات ملوّنة ومرتبة بعناية لتزيين صورة دولة مثقلة بالقيود.
كانت تصدر دوريًا كأنها أوراق خريف تُجمّل واجهة شجرة ذابلة، أو كزجاج لامع يُخفي صدأ الجدران.
نعم، حملت أسماء رنانة:
“المعرفة” – “الآداب الأجنبية” – “الموقف الأدبي” – “الحياة المسرحية“…
لكن ظلّ سؤال واحد يلاحق كل قارئ: من يختار ما يُنشر؟ ولماذا؟
مجلة تصدر شهريًا… لكنها لا تقول شيئًا
كان يمكن أن تجد في عدد واحد ترجمات من عشر لغات، دراسات عن نيتشه وتروتسكي، مقالات عن الواقعية الاشتراكية والشعر المقاوم. لكن حين تلتفت لتسأل:
ــ وأين نحن؟ وأين وجعنا؟
لا تجد سوى الصمت، أو الاستبدال.
تُكتب مقالة طويلة عن الرقابة في تشيلي، ولا يُقال حرف عن الرقابة في الشارع المقابل. تُنشَر قصيدة عن السجون في أمريكا اللاتينية، لكنّ القارئ السوري يعرف أن السجن الحقيقي على بُعد أمتار من بيته.
المثقف الموظف… والكاتب الحذر
أغلب هذه المجلات لم تكن مستقلة، بل تصدر عن وزارات، أو اتحاد الكتّاب، أو دار البعث، أو اتحاد الطلبة. ولذلك لم يكن المثقف فيها حرًا، بل موظفًا يتقاضى راتبًا ويكتب بما يتناسب مع “السلامة الوطنية”.
نشأ من هنا صنف جديد“: المثقف الحذر”.
يعرف كيف يكتب دون أن يقول شيئًا، وكيف يُدخل نقده بين سطور الترجمة، وكيف يشير إلى خراب الداخل عبر خراب الخارج. يكتب عن موت الحرية في أمريكا اللاتينية، وكل قارئ ذكي يقرأ عن نفسه بين السطور.
المجلة مرآة مُضبّبة
أُريد للمجلات أن تكون واجهة للدولة “المنفتحة”، لكن المرآة التي قدّمتها كانت مُضبّبة، لا أحد يرى نفسه فيها بوضوح.
فتحت صفحاتها لأسماء معروفة، لكنها أوصدت الباب أمام كل نبرة صادقة أو صوت جديد. وإذا تسرّب نص جريء يومًا، يبدأ التحقيق:
ــ من سمح بنشره؟
ــ هل هناك تمرد داخل التحرير؟
وينتهي الأمر باعتذارٍ رسمي: “هذا خطأ فردي، لا يمثل سياسة المجلة.”
وهكذا يعود الحبر إلى قفصه.
من الورق الخائف… إلى الشاشة المرتبكة
اليوم تغيّر المشهد. تقلّصت المجلات الورقية، وتوسّعت المنصات الرقمية. صار النشر أسهل، لكن الرقابة لم تختفِ، بل لبست وجوهًا جديدة:
تمويل مشروط، منصات حزبية بواجهة ثقافية،
حرية شكلية لكنها محكومة بخيوط خفية.
صار الكاتب يتساءل:
هل أكتب لأُنشر، أم أكتب لأنجو؟
هل الحرية الرقمية حرية حقيقية، أم مجرد “مقصّ إلكتروني” يختبئ وراء خوارزمية؟
خاتمة
في “الزمن الجميل”، كانت المجلات تصدر شهرًا بعد شهر، لكنها كانت تتحرّى السلامة أكثر مما تبحث عن الحقيقة. الإبداع كان أشبه بعملية تهريب، والكاتب كان يكتب وكأنه يسير فوق أرضية زلقة، يرقص ليثبت أنه ما زال حيًا.
ومع ذلك، كان هناك دائمًا نصّ ينجو. قصيدة تمرّ خلسة، مقال يتسلل عبر الرقابة، فيصفّق القارئ سرًا، ويقول لصديقه:
ــ قرأتها؟ لقد مرّت بين السطور…
وهكذا ظلّ الكاتب يكتب ليقول: أنا موجود… رغم كل شيء…!!
