الكاتب مروان ناصح
في “الزمن الجميل”، كان المسرح والدراما التلفزيونية من أهم نوافذ الترفيه والتأثير في حياة الناس، لكن خلف الأضواء والضحكات، كان هناك سقف عالٍ لا يُسمح بتجاوزه، يظل حاضرًا في كل كلمة وفي كل مشهد.
الكوميديا: تنفيسٌ بترخيص
الكوميديا كانت المساحة الأكثر أمانًا.
نجومها يملؤون البيوت بهجةً، ويحفظ الجمهور نكاتهم ويتناقلها، وتمنحهم الدولة الدعم والجوائز. لكن الضحك كان مضبوط الإيقاع:
لا جرح عميق، لا صدمة تهزّ، بل سخرية لطيفة تُزيل التوتر من النفوس
وتحوّل الهموم اليومية إلى مادة للتندر.
تكررت الشخصيات النمطية: الأب الصارم، الجار الفضولي، الموظف البيروقراطي… صور مألوفة تجعل الناس يبتسمون، لكنها لا تفتح بابًا للتفكير الجاد.
الدراما الجادة: لغة الرمز والتلميح
أما المسرح الجاد، فقد عرف طريقه عبر الرمز والتورية. النقد المباشر كان خطرًا، لذلك لجأ المبدعون إلى التاريخ والأسطورة والحلم.
شخصيات من الماضي تروي قصص الحاضر، حوارات عن أبطال أسطوريين تخفي ملامح السياسيين المعاصرين، ومشاهد عن الحرية تُحكى بلسان الطيور أو في مدينة خيالية.
كان الجمهور يفهم الرسالة، ويبتسم سرًّا حين يلتقط التلميح. وهكذا أصبح الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام، والمجاز أعمق من التصريح.
الرقابة: المقصّ الأحمر
خلف الكواليس، كان “المقص” حاضرًا. نصوص تُعدّل، عبارات تُشطب، وممثلون يُطلب منهم تغيير جمل دقيقة كي لا تلامس المحرّم.
ومع ذلك، أبدع الفنانون في التحايل، فحوّلوا الكلمة الممنوعة إلى إشارة، والمشهد المرفوض إلى نظرة عابرة، ليكتمل المعنى بين الممثل والجمهور بلا تصريح.
الجمهور كشريك في اللعبة
لم يكن المشاهد متفرجًا بريئًا، بل كان شريكًا في قراءة الرموز.
يعرف أن الفنان لا يستطيع أن يقول كل شيء، فيفسّر الإيحاءات بطريقته، ويضحك أحيانًا من “بين السطور” أكثر مما يضحك من النكتة نفسها.
كانت القاعة المسرحية فضاءً مشتركًا: المبدع يلمّح، والجمهور يفهم، والكل يدرك أنهم يؤدون رقصة ذكية على حبل مشدود.
التنفيس الجماعي والمكافأة الرسمية
كانت الدولة تسمح بهذا التنفيس المراقب.
تكرّم الفنانين الذين ينجحون في إضحاك الناس دون تجاوز،
وتمنحهم المهمات الخارجية والجوائز، فيما تبقى عيونها مفتوحة على من يقترب من الخطوط الحمراء.
لقد كان الضحك وسيلة للهروب، وسيلة لتحويل الغضب إلى ابتسامة عابرة، ولترويض الحلم حتى لا يتحوّل إلى صرخة.
من الزمن الجميل إلى اليوم
الفرق بين الأمس واليوم أن الرقابة لم تختفِ، بل غيّرت جلدها. في الماضي كانت لائحة رسمية أو مُراجع نصوص، واليوم صارت رقابة السوق أو ضغط الرأي العام أو لغة المنصّات الرقمية.
لكن المبدع ما زال يبحث عن حيلته، عن كلمته المواربة، عن طريقته الخاصة ليقول ما لا يُقال.
خاتمة
في بلد يُمنع فيه التصريح، تصبح المسرحية تلميحًا ذكيًا، وتصبح الكوميديا الوطنية حصان طروادة، تدخل النقد في ثوب الضحك، لكن تبقى اللعبة محفوفة بالخطر.
إنها رقصة فوق حبل مشدود، يراقبها الجميع، ويصفقون، لكنهم يخشون جميعًا من هول السقوط.
