صدر عن دار الشؤون الثقافية للكاتب امجد توفيق رواية بعنوان ( الحيوان وانا ) لعام 2024 ، وقد بدأ الكاتب في بث سردياته من مكان محدود ( المزرعة ) وهو البؤرة الأساسية التي انطلق منها الكاتب بعد ان شكل هذا المكان مفصلا رئيسيا في استعادة الأحداث الماضية وكشف الأحداث اللاحقة وكذلك الإمتداد نحو امكنة وآفاق عديدة ، بالإضافة الى الأثر الفاعل لهذا المكان في تشكيل عناصر الرواية ( الخيال / الشخصيات / الأفكار / الصراع ) ، لذلك يمكننا تسمية هذا المكان بالمكان ( المشع ) الذي جاور العديد من نقاط الصراع التي اصبحت فيما بعد سمة خاصة ومهمة في هذه الرواية .
يبدأ الكاتب من خلال جدلية التوئمة القائمة بين بطل الرواية دانيال الذي يعيش حالة من الإغتراب في مزرعته والحصان ( ظلام ) وبعض الحيوانات الأخرى بعد ان اعتبرها ( الحيوانات ) شخصيات رئيسية في الرواية .
المقصد الرئيسي في هذه الرواية هو تبيان صورة التوحش البشري بعد ان الصق الكاتب صورة الوداعة والحرص والوفاء بشخصياته الحيوانية ، وتلك مفارقة مهمة حين اعتبر ان الحيوان معادل موضوعي لثيمة الرواية التي تتحدث عن الغول البشري وشراسة الحياة القائمة على الإبتزاز والخوف والقتل بعد ان استطاع الكاتب تغيير الصورة النمطية في ذهن المتلقي وقلب المعادلة باكملها من خلال ( ظلام / الحصان ) الذي يوصف بالأصالة العربية ويقتل ذلك الحصان من خلال رصاصة اللارحمة بكاتم صوت من قبل انسان يتنكر لأصالته وهو يد العصابة التي تصول وتجول في اجواء وصفها الكاتب بأجواء الإحتلال الأمريكي .
لم يستخدم الكاتب مفردة ( إنسان ) في هذه الرواية إطلاقا بعد ان ازاحها من قاموسه السردي لأن هذه المفردة تتماهى ضمنا مع الإنسانية التي لايريد لها الكاتب ان ترتبط بالإنسان ذاته بل اوغل السارد ابعد من ذلك عندما وصف نفسه بأنه حيوان ، معتبرا ان الأخطاء هي ديمومة الحياة بعد ان ادرك ان لا فكاك من الأخطاء ، وقد مارس تلك الأخطاء مع صاحبة الشوال ولاحقا مع ذكرى ، مدركا ان الحيوان شخصية منزهة من الأخطاء ، لذلك اسلم دانيال نفسه للموت وقال في نهاية الرواية .. انا حر .. انا جاهز للموت .
لقد برع الكاتب في تصوير مشاهد درامية فاعلة تتعلق بين الصوت والفعل المحسوس ، هي تلك العلاقة الرابطة بين فعل وحركة الحيوان والمحسوسات التي يتحسس بها الإنسان ( شخصية دانيال ) فاصبحت هناك توئمة بين السارد وبين الحصان / ظلام ، واصبحا كلاهما لصيقا بالآخر لأنهما تعرضا لقسوة الحياة وان جدل العلاقة بينهما جعلت منهما ان يعيشا سوية ، وكأن الكاتب يريد ان يقول لنا ان الحيوان لايخون ولكن عندما تعجز الخيول في غمار السباق تركن بعيدا او يطلق عليها الرصاص بعد ان يتنكر الإنسان لها .
لذلك اختار الكاتب الحيوانات شخوصا لروايته وجعل حالة التعلق بها بمثابة النفور من الحياة التي يسودها التوحش البشري ، جاعلا من الحيوان صورة مثالية تتسم بالوداعة والسلام والأمان ، فالحيوان هنا معادل موضوعي للحرية المطلقة وان الغريزة الحيوانية تنصفك حين تدلل ذلك الكائن الوديع .
السارد العليم لايسقط بوهيمية الحيوان على ذاته بل تلك الصفات الإيجابية التي يتمتع بها الحيوان / النبل / الوفاء / المساعدة / الحماية …. الخ ، ونلاحظ ايضا ان ليل ( الكلب ) وليل المزرعة كلاهما ينعشان روح دانيال .. انها عزلة عن الحياة التي يكمن سرها على حد توصيف الكاتب بديمومة الأخطاء ، هكذا يريد ان يقول لنا الكاتب ، فعزلته لم تجعله يبتعد عن ادران الحياة فلا مناص من الخطأ ، وهنا اشارة واضحة للعلاقة بين دانيال وذكرى وايضا العلاقة بين دانيال والفلاحة صاحبة الشوال .
العزلة التي اختارها دانيال لصفاء الذات لم تطهره من ادران الحياة ( ذكرى ) لذلك يقول السارد ( سلام لايتحقق إلا إذا كنت حيوانا ) ص 114
استخدم الكاتب اسلوب السرد المتواصل دون عناوين او علامات او ارقام او حروف معينة وحتى لايقع الكاتب في شرك الرتابة اتجه الى اسلوب سردي يتمثل بين المركز والهامش ، فأصبح الصوت السردي وتشكلاته مع النمط العام للسرد عاملا مهما في التماسك البنائي ، وهنا تجدر الإشارة الى المسرودات النصية في الرسائل والإتصالات وكذلك ( دفتر موج ) الذي تركته هذه الشخصية في المزرعة بعد سفرها الى لندن بعد ان افرد الكاتب هذه الهوامش بحجم مختلف عن بقية المسرودات ، وقد اكون ملزما ان اصف هذه الجزئية بالميتا سرد . اما المركز هو ذلك السرد الراهن الذي يمثل عزلة بطل الرواية في مزرعته بعد هروبه من العالم الغريب وما تشاكل به من حوادث آنية .
لم يهمل الكاتب عنصر ( الزمن ) بل اصبح الزمن في هذه الرواية تقنية مهمة في بعض الإسترجاعات الفنية للأحداث التي جاءت متماثلة جدا ، وتكمن الإشارة هنا الى العلاقة الجنسية التي وقعت بين دانيال وصاحبة الشوال التي عززت مفهومية عتبة العنوان عندما وصفته بالحمار كونه لم يتقرب اليها في بادئ الأمر ، بالإضافة الى علاقة دانيال ذاته مع بقية الحيوانات في المزرعة وقد عزز ذلك ايضا فكرة النص التي تتعلق بماضي دانيال عندما كان ضابطا في سلك الشرطة وتلك الأحداث التي رافقته .
لم يراهن الكاتب على استعادة الحياة بل قطع الصلة بها بعد انزوائه في مزرعته ( منفاه الاختياري )
تركت المدينة لأنها اورثتني الهم
صادقت الاشجار ، صادقت القطط والدجاج
تآخيت مع كلبي ليل وحصاني ظلام . ص 89
عمد الكاتب الى عدم التدخل في سلوكيات دانيال بعد ان ظهرت هذه الشخصية بوعي مختلف تتصف احيانا بالبناء وتارة اخرى بالهدم ، فظهر دانيال بأعتباره شخصية تسعى الى مساعدة الآخرين والعطف على ابنه نبيل ومساعدة موج بعد ان هددت عصابة معينة بخطفها وبدى دانيال منزها عن العديد من الأخطاء في الراهن بسبب عطفه المستمر ايضا من خلال مصاحبته للحيوانات ، لكنه اسقط في شراك شهوته ثانية بعد ان انساق الى لذائذ الحياة بسهولة ولم يتمالك نفسه مع مغريات ( ذكرى ) التي تعد بمثابة الأمانة في بيته .
لذلك قدم الكاتب لنا صورة واضحة للفرد دون ان يتدخل في رسم ملامح الشخصية الداخلية ، بل منحها حرية التصرف كما يحلو لها وتركها تعبرعن ذاتها بشكل طبيعي .
إن رواية ( الحيوان وانا ) للكاتب أمجد توفيق هي رواية هادفة تمتاز بالواقعية التي تمثل اضمحلال الفضاء المجاور والوصول الى قيعان الانسداد الحياتي وتصور لنا عالما شائكا يتصف بالقتل والغدر والإبتزاز ولامناص من تراكم الأخطاء ومكائد الشهوات في حياة يسودها الالتباس والغموض .