
بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة نظم (معهد لويس بوزيه) بمعهد الدراسات الشرقية في بيروت، بالتعاون مع (الغرفة 19)، ندوة فكرية بعنوان (الفلسفة فن الحياة لا الموت) حضرت الندوة عبر تطبيق زووم، وكانت أمسية طويلة، ممتعة، ومعقدة بالقدر الجميل الذي يجعل كل مداخلة تحتاج إلى محاضرة مستقلة، لكن المتحدثين ضغطوا أفكارهم باحترافية عالية بحيث لا تتجاوز ورقة كل منهم عشرين دقيقة…
استهل د. بهاء درويش الحديث بعنوان ورقته:
الفيلسوف… فكر يصنع اختلافاً على الأرض
و بدأ بسقراط و(جريمة) قتله حتى لا تفسد أفكاره الشباب، “و رأيي الشخصي ان ذات الفعل ممارس ضد الفكر في العالم العربي والاسلامي اليوم لمحاربة الفكر ففي 1983 عندنا في السودان قُتل المفكر محمود محمد طه بمحاكمة جائرة ” ثم انتقل المحاضر إلى المعتزلة واعتمادهم العقل في الفلسفة الإسلامية، ومنها انتقل إلى حركة الإصلاح الديني في الكنيسة و مارتن لوثر، ثم وصول بنا المتحدث إلى فلسفة ومفهوم الدولة العلمانية التي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان.
و توقف أيضاً عند مقولة وزير الدفاع الأمريكي في الستينات عند مقولته المدهشة (الأمن هو التنمية)، وكتب مستعرضاً رؤيته بأن استخدام القوة لا يمنع الثورات و الاحتجاجات، وان التنمية هي سبيل رضا الشعوب وأن دول القمع غالباً ما تكون الأكثر فقراً .. و اختتم حديثه بمفاهيم الطاقة المستدامة وأخلاقيات المهن … و كان حديثاً تاريخياً غنياً ومضغوط بعناية شديدة
لينا الجزراوي… الحرية، الأخلاق، والسعادة
ثم جاء دور د. لينا الجزراوي بورقتها:-
هل تُبنى السعادة على الحرية أم الأخلاق؟
وكانت بحق مداخلة مكثفة تحتاج لساعات لولا مهارتها في التلخيص.
تحدثت عن حاجتنا اليوم إلى الفلسفة كأداة نقدية تمكننا من التمييز بين الحقيقة والزيف في عالم تتدفق فيه المعلومات أكثر مما تتدفق الحقائق ثم تناولت العلاقة المعضلة بين الأخلاق والحرية و جدلية هل الأخلاق شرط للسعادة أم قيد عليها؟
و هل الالتزام الأخلاقي يُنمي الحرية أم يحد منها؟
و استعرضت أقوال الفلاسفة في ذلك :-
(أفلاطون وأرسطو) وفلسفتيهما المتناقضتين حول النفس والجسد، ثم (بنثام) رائد النفعية القائل بأن الفعل الجيد هو ما يحقق أكبر منفعة
و ثم تعرضت لـ(كانط) وفكرته عن عالمية الأخلاق
وخلصت المتحدثة إلى ضرورة الموازنة بين الحرية والأخلاق، فالحرية مسؤولية لا فوضى، والأخلاق دليل كمال لا قيد، وترى أن الحل من وجهة نظرها في الجمع بين (عقل) أفلاطون (عملية) أرسطو (مبدئية) كانط (واقعية) بنثام…
ليقفز السؤال الي ذهني عن مدي امكانية ذلك في اوطان تعاني الفقر والحاجة وسوء التربية والتعليم ؟!؟!
د.حنا نعيم… العمارة بوصفها فلسفة عيش
ثم انتقل الحديث إلى د. حنا نعيم وورقته:
فلسفة العمارة التقليدية
وكانت مداخلة شيقة حول ارتباط شكل البناء والعمارة بالإنسان و الطبيعة و سلوكه ومعتقداته وهو موضوع واسع سأفرد له مساحة خاصة لاحقاً، لأنه يمس عمق التجربة السودانية ،ففي بلادنا ونحن من نسل كوش بن حام بن نوح عليه السلام ما زال التراث المعماري القديم حياً إلى عهد قريب و بيوت الطين اللبن والأخشاب والقش ومداخل الهواء العجيبة التي يسمونها (الطاقات) وكذلك المفردات النوبية (التُكل) و(الدوكة) و (الطابونة) وهي مفردات تتعلق باماكن صنع الطعام والخبز وإرتباط المسكن بطقوس الموت والولادة ودفن (التبايع) وهي خلاصة عملية الولادة ودفنها بالبيت وعمليات دفن (الحبل السري ) للمولود وغيرها
و ربما لا يتخيل شباب اليوم حتي المهندسين منهم انه كان المعمار لاكثر من طابق يستخدم فيه الطين فقط وقد شاهدت بأم عيني بناية من طابقين بالطين اللبن ارتقيت طابقها العلوي في قريتي بالسودان (العيلفون) إحدى مناطق مملكة (علوة المسيحية) القديمة قبل دخول الاسلام السودان وهي منطقة قريبة جداً من العاصمة الخرطوم لكنها عانت من الاهمال رغم تاريخها العريض وآثارها المهملة فقد كنا صغاراً ونحن نري (الخواجات) يحفرون في مناطق اثار كنائس (سوبا) عاصمة تلك المملكة و المؤسف أن الحكومات المتعاقبة في السودان أهملت هذا التراث الحضاري، وجاءت الحرب الحالية لتقضي على ما تبقى من ذاكرة المكان .. ربما اعود لما طرحه د. حنا في مقال منفصل ..

ورغم أن الندوة فتحت أمامي عشرات الأسئلة، فإن ما يجري في السودان جعلني أتوقف عند سؤاليْن جوهريين طرحتهما على المتحدثين واجابوا عليها:
- كيف يمكن للفلسفة أن تنقذ الإنسان في زمن الحروب والاضطرابات؟
- وهل الفلسفة قادرة على تقديم بديل أخلاقي في عالم مادي متوحش؟
وهما سؤالان أحملهما معي في كل ما نعيشه اليوم من خراب واغتراب وتحول قاس في حياة السودانيين وتراث حضاري عظيم تم تدميره..
وحتى لا أطيل على القارئ، أدعوه لمتابعة الندوة كاملة على اليوتيوب، فالمحاضرة جديرة بالمشاهدة، و(الغرفة 19) تستحق المتابعة لما تقدمه من موضوعات عميقة وضرورية..
وختاماً اسألكم ونفسي هل امراء الحرب في السودان ينتمون لفلسفة (بنثام) القائلة
(الفعل الجيد هو ما يحقق المنفعة، أي منفعة، بغض النظر عن معايير أخرى)
لانها حرب تخلق منافع لفئة معينة بينما تخلق ضرراً عظيماً لوطن شاسع وقديم ؟؟
مجرد سؤال!!!
محمد طلب
mtalab437@gmail.com
رابط لقاء مركز لويس بوزيه في معهد الآداب الشّرقيّة بالتّعاون مع “غرفة 19ندوة بعنوان الفلسفة فنّ العيش لا الموت