
في الزمن الذي تغزو فيه الشاشاتُ المشاعر، وتنتقل فيه الحكايات من دفء الورق إلى برودة الأرقام، ينهض سؤالٌ مهيب: هل الذكاءُ الاصطناعي رفيق القصة القصيرة أم نقيضها؟
القصة القصيرة ليست مجرّد شكل أدبي محدود الحجم، بل هي كائنٌ حساس، يولد من رحم الدهشة، ويُصاغ من نبض التجربة البشرية. هي كقطرة الندى على ورقةِ صباح، تختزلُ الزمنَ والفكرة والانفعال في ومضة. من ينسى “عباءة” زكريا تامر؟ أو تلك القصص المتقشفة العميقة لنجيب محفوظ في “رأيت فيما يرى النائم”؟ هذه ليست كلماتٍ تُجمع في صندوق، بل هواجسُ إنسان، وتوقٌ دفين للبوح.
وهنا يطلُّ الذكاء الاصطناعي، هذا الكائن اللامرئي، الذي يحفظ، ويحلل، ويعيد التركيب. بات بإمكانه أن يكتب قصةً كاملة بأسلوب تشيخوف، أو بصوت يوسف إدريس، أو حتى أن يحاكي أجواء الغموض لدى إدغار آلان بو. لكن، هل يستطيع أن يخلق “إحساس المفارقة” كما في قصص محمد المخزنجي؟ هل يمكنه أن يبثّ الأسى النبيل الذي يسكن سطور ليلى العثمان أو زهور كرام؟
نعم، قد يشكّل الذكاء الاصطناعي تحالفًا تقنيًا مع الكاتب المعاصر، يعينه في توليد الأفكار، واقتراح البُنى السردية، وحتى تطوير الشخصيات. وربما يوفّر له مختبرًا لغويًا هائلًا لتحليل الأساليب وتجاوز الرتابة. بل إن بعض الكتّاب يستخدمونه اليوم لتجربة نهايات متعددة، أو لصقل الحوار.
لكن الوجه الآخر لهذا التحالف، وجهٌ قد يتحوّل إلى تهديد.
فإذا أُوكل إليه دور الخلق، لا المساعدة، فقد تفرغ القصة من معناها العميق. لن تعود مرآةً لروح الكاتب، بل تصبح محاكاةً سردية ملساء، بلا عُقدٍ نفسية، ولا لحظات تردّد، ولا تلك الهفوات الإنسانية التي تمنح النص صدقه. إن جوهر القصة القصيرة يكمن في الفراغات التي تتركها، في الصمت بين الجمل، في الخاتمة المعلّقة التي تُشبه الحياة. وهذا ما لا يُتقنه الذكاء الاصطناعي، لأنه لا يشعر، لا يتذكّر، لا يحنّ.
فليكن إذًا الذكاء الاصطناعي أداةَ توسّع، لا مصدراً بديلاً، رفيقًا يضيء، لا ظلًا يخنق. ولنحرص نحن، ككتّاب وقرّاء ونقاد، على أن تبقى القصة القصيرة منطقةً حرةً للوجدان، عصيّة على الاستنساخ، مستعصية على التكرار.
ففي النهاية، الحكاية تُكتب بالقلب أولًا…
وما من آلة تملك قلبًا.