من هو الرجل الوحيد في هذا العالَم الذي اقترب من السبعين ولم يستطع أن يسمع “فيروز” ولو لمرة واحدة ؟!
هو ابنها “هلي”.
لكن فيروز، حتماً، لو سُئلت كأمّ لأجابت أنها ستكون أكثر سعادة لو أن أحداً في العالم لم يسمعها وسمعها “هلي” فقط.
فيروز التي أسعدت العالم، بهذه الرقة وهذا الحب الهائل المتدفق من صوتها، لم تستطع، ولم يستطع أحد، أن يبدّد حزنها هي.
“هلي” الذي قال الأطباء لها في طفولته أنّه لن يعيش أكثر من ثمانية أعوام، ها هو يقترب من السبعين من العمر، لوالدة لم يسمعها أحد تشكو من رعايته، أو من احتياجاته، وهو الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يمشي، وقضى عمره منذ الطفولة إلى الشيخوخة على “كرسي متحرك”.. كأنه هو بالضبط الذي وصفته فيروز بقولها: “يا همّ العمر”.
نحن الذين شُفينا من أمراضنا كلّها بصوت الأم الرقيقة، الضعيفة الحال، التي دائماً ما بدَّدت وحشتنا بصوتها، لم نر حزنها ولو ليوم ولم نحمله عنها ولو ساعة.
“فيروز” التي مثل “الشقيقة الكبرى” في كل عائلة، تجلس بملابسها المتسامحة، ووجهها الفائض بنور الله، كل ليلة، لتوزع علينا المحبة قبل أن ننام، وتضعها في جيوبنا كل صباح، لم تكن قادرة أن تنقذ بيتها هي من قسوة الحياة، وكان عليها أن تخوض هذا النزال إلى آخره.
وهذا شأن الناس، كلّها، حين تكظم حزنها الشخصي، وتفرد ضحكها على مائدة العائلة، والأصدقاء. فلا أحد يتكهن بتلك الآلام التي تعضّ قلبك وأنت تضحك أو تقصّ عليهم حادثتك الطريفة في ذلك اليوم.
لا أحد يعرف ما تخبئ تحت تلك الطاولة المبهجة. ولا أحد بوسعه أن يلمس بيده ذلك النزف الذي يغرق ثيابك من داخلها.
هكذا هي بيوت الناس، كأن في كل بيت “فيروز” وفي كل بيت “هلي”. لكن لا أحد يسمع من النافذة غير الغناء.
الغناء الذي يطغى على صوت الذئاب. الذئاب التي تعوي وهي تنهش أرواحنا. ولا يسمعها غيرنا!
لم نسأل مرة لماذا تظهر “فيروز” بهذا الحزن الذي يُجلّل أطراف ثوبها، وأطراف صوتها، ولو لم تنشر ابنتها ريما أخيراً هذه الصورة المؤلمة، ما كنّا لنعرف أن فيروز تأتي إلى حفلها، وفيها آثار البكاء على ابنها. لقد ظلّت على تلك الحال سبعين سنة!
“سبعين مرة إجا وراح التلج و أنا صرت اكبر.. وشادي بعدو زغيَّر”.
سبعون سنة من الألم، تطوي حزنها اليومي وحيدةً تحت وسادتها، حتى بعد أن “نامت ريما” وكبرت، و”ضاع شادي”، وصار “زياد” صديق أمّه وملحنها، لكنّ الهَمَّ هو الهَمّ .. والناس تسمع صوت فيروز لكنَّ أحداً لم يسمع فيروز نفسها !
سبعون سنة من الآلام، تلك الآلام التي ائتمنتها الحياة عليها. الآلام التي لا لحن يصلح لها سوى عواء أم من أقصى قلبها وهي تلد.
كانت تلده مرّةً بعد مرَّة. ليلةً بعد ليلة، وهي تترجَّى الله أن يمسح بيده على كرسيه !
الآلام التي لم تمنعها أن تقول لنا بصدق مفرط: “شو بديّ بالبلاد. الله يخلّي الولاد” !
سبعون سنة وهي تخرج للمسرح من خلف “كرسي متحرك” تركت على مسنده قلبها، لأنه هناك يجلس الولد المريض، الولد الذي لم يسمع أمّه مرة، أمّه التي صفَّق لها العالم لم تطاوعه هو يداه ليصفّق لها ولو مرة! أمّه التي كانت ستترك المسرح والعالم والأغنيات لو ناداها بطرف كلمة، وتهرع إلى فِراشه الممدود لتقول له:
“أنتَ الأساسي
وبحبك بالأساس”!
..
يا للألم يا فيروز، يا للألم.
لو أننا نستطيع يا أمّنا وشقيقتنا الكبيرة أن نغنّي لك ولو أغنية واحدة.
…
لكنّه لو نطق “هلي” مرّةً واحدةً في العمر لقال: “هيدي إمي. بتعتل همّي” !
فلهذا ربّما خُلقت الجبال، وخُلقت الأمّهات. وعاشت لبنان آمنة……
مقال
إبراهيم جابر إبراهيم