عزة المقهور
لا تحيا القلوب إلا بالمحبة، ومدن الماء مدن حب. فالعاشقون على ضفافها، والباكون على أهدابها، والحالمون المتمددون على أمواجها، والمتمعنون في مدها وتراجعها، والوحيدون المتنهدون على دفقات نسماتها، والفرحون الراقصون على رمالها، والسابحون في أعماقها هم سكانها
كيف يعيش سكان مدن الماء وفي قلوبهم ضغينة، وكيف ينامون على كراهية أو يحشدون رغباتهم لانتقام …؟
مدن الماء تفيض حبا، تستدعي العاشقين إلى طمأنينة وتتأهب لدفن أسرارهم الغارقة.. تهديء من روعها أصوات موجها المتكرر بلا هوادة ولا ضجر، وتعطف على مبدعيها وتبصرهم لونا وتسمعهم لحنا وتستحث خيالهم لينسجوا ضفائرها ويزينوها لآليء وأعشاب البحر ، وتسقي القلقين جرعات من أمل، وتؤنس وحشة الوحيدبن ، وتمتص رطوبتها صخب المدن
فكيف لسكان مدن الماء إلا أن يحبوا؟ وكيف لهم ألا يتقبلوا رؤية مظاهر المحبة على أنامل وخيوط واهداب وصدر وأعماق الماء؟ وكيف لا يتجرعون هذه المحبة لتنبعث من أعطافهم ويرضعونها أطفالهم ويعلمون الناشئة حدود نزقهم وطيشهم ؟
مدن الماء تتشابه.. في محبتها وحلمها وصبرها ورجاحة عقلها ونبض حيويتها واتزانها على دوزنة أوتار الموسيقى الهادرة من ضفافها
اليوم رأيت كل هؤلاء وآخرين من الرحالة الذين اختاروا مدينة ماء، استرخوا على ضفافها بعد عناء الطريق، ونزعوا أحذيتهم و استلقوا على ظهورهم. و دراجون يتفادون الأوز القاطع للطريق مع فراخه بخيلاء وعلى ثقة من أن الدراجين من سكان مدينة الماء يولوه أولوية المرور على الطرقات المعبدة الضيقة، وهو متجه صحبه فراخه نحو الماء ناشدا بللا وبرودة
إن لم نعلم أجيال مدن الماء محبة، وغض البصر عن العاشقين، وغلق الآذان عن وشوشات السامرين، والحس بوحشة الفرادى الوحيدين والحزن الدفين للجالسين المنهكين، و الاتساع لحرية الراجلين في نزههم حفاة، والاحتفاء بالمبللين بصور وحروف ونوتة ورقص وغناء وفن نقشوه على الأفق ابداعا، ألا نهدم قصور البنائين حتى وإن كانت من رمال. إن لم نعلمهم صبر الصيادين على اقتناص سمكة ثم اعادتها للحياة لصغر حجمها، أو وحشة الأعماق والاستعداد للمجهول عن علم ودراية، فلا أثر للماء على المدن، إلا ركلات ضجرة على صدر اليابسة ليس أكثر
طالما أن الماء حياة، فلا حياة في مدن الماء إلا بالمحبة.. فطوبي لمدن الماء المحبة