دينا سليم قاصة وروائية فلسطينية تعيش في حاليا في أستراليا، صدر لها من الروايات “الحلم المزدوج” و”تراتيل عزاد البحر” ورواية بعنوان “سادينا“، أما روايتها التي سنتناولها بالدرس هنا فهي بعنوان “الحافيات“. تحكي الرواية قصة شخصيتين “وفاء” و”فضيلة”، حكايتان مختلفان لكن ما يجمع بينهما كثير على مستوى الموضوعات أو التقاطعات المشتركة، وعلى مستوى صيغة الخطاب.
تشترك الحكايتان في الشخصية المحورية المؤنثة، وهي شخصية وسارد في آن، مما جعل المحكي السردي ذاتيا، وجعل الشخصية مشاركة في بناء الحكاية، بل هي المصدر والمرجع في آن، منها تبدأ الحكاية وإليها تعود. من هذه الوجهة السردية يكون المحكي السردي هنا ذاتيا، ويكون موضوع الخطاب متعلقا بتكوين الشخصية، وتتبع مسارها في الارتقاء والانحدار، أما باقي الشخصيات الروائية المتخيلة فهي مكملة للأبعاد النفسية والاجتماعية والفكرية للشخصية الرئيسة كما أنها تحدد وضعيتها داخل الفضاء الروائي وضمن حدود المتخيل الحكائي.
تشترك الحكايتان في صيغة الخطاب الروائي الذي يختصره العنوان؛ “المحكي المسترسل الملتاع” ويندرج ضمن رواية “تيار الوعي” التي من ملامحها البارزة في رواية “الحافيات” لدينا سليم:
تدفق الذاكرة: تقوم حكايتا رواية “الحافيات” على تناوب المحكي بين “واقع الحكاية” حيث تنمو وتتكون الشخصية المحورية “وفاء” ثم “فضيلة“، وبين “مخزون الذاكرة” المسترجع في لحظات تدفق الذاكرة، فيجعل ذلك من السرد نهرا ذا مجرى واحد، وذا بعد واحدٍ ينطلق نبعه من لحظة تذكر تنبثق من محفز خارجي أو مثير ذاتي ليعود الجرح الشخصي إلى النزيف.
في حكاية “وفاء” يعلن السارد (المؤنث) عن مساري السرد اللذين سيتناوبان على رسم الحكاية، وهما متزامنان؛ لحظة وفاة “منيرة” في (واقع الحكاية) وهو حاضرها وتذكر لحظة الزواج وهي من الماضي ومن (مخزون الذاكرة)، يقول النص:” لم تبدأ المهام بتحضير الجنازة بعد، فاليوم هو الثلاثين من حزيران، يوم ذكرى زواجي أيضا، كانت قد وضعت (منيرة) رأسها على فراشها الأبدي، وللأبد” ص (17)
تروي الحكاية محنة امرأة عانت من ضعف شخصية زوجها وابن عمها “ناصيف” وسطوة “منيرة“، وعبر العلاقة الثلاثية تنبني الحكاية وتروى قضايا تثقل كاهل المرأة وتزج بها في قلق وجودي وتحبسها في سجن الوحدة والعزلة حيث تشعر أنها كائن مقذوف في العراء بدون حماية إلا ما يمكن أن تشحذه الذات من مقاومة غريزية للبقاء والتجدد والبحث عن منفذ للخلاص داخل ذاتها.
هناك ألم ممض يفترس فكر ونفس المرأة الشخصية المحورية “وفاء” يتمثل في كونها امرأة وقعت تحت سيطرة العادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي فسلبت منها إرادتها وشخصيتها وأجبرت على فعل أمر ما كان لامرأة حرة أن تقبله، امرأة كاملة السيادة: أن تحبل بولدين (ماهر وساهر) من تلقيح اصطناعي، من ماء رجل مجهول لتتستر على عقم زوجا وابن عمها ولتلبي رغبة منيرة وباقي العائلة. إنها الأعراف التي تسحق تحت أقدامها الحرية الشخصية للفرد وإرادته وحقه في الحياة وفي الاختيار.
ومن السياقات التي تعبر فيها شخصية “وفاء” عن رغبتها في التحرر الآتي:” داعبتني فكرة خبيثة، نزعت قميصي وبقيت بالصدرية، نظرت إلى جسدي الأبيض، وجدته جميلا ناصعا كالثلج، ابتسمت أمام المشهد واستمريت في طريقي، قدت سيارتي بكل ثبات في الشارع المزدحم…” ص (53)
بالرغم من الآلام والفجائع ومآسي “وفاء” أو “فضيلة” تضع الكاتبة “حالة وعي” متجددة تتعرف فيها الذات على ذاتها فتعاود النهوض والوقوف من جديد لبداية مسار جديد أكثر ثباتا وثقة، لأن الذات فيه متحررة من كل ثقل خارجي. إنها شخصيات يصهرها الألم ويقويها كالفولاذ، وهذا الملمح من أهم ملامح الرواية. إنها رواية متفائلة مؤمنة بالقوة الداخلية للإنسان، والبداية الجديدة بعد السقوط واستبداد الشعور بالإحباط واليأس واللاجدوى.
السارد الشارد والقلق: يوافق تدفق الذاكرة نوعا محددا من السُّرَّادِ وأهم ميزاتهم الفارزة القلق والحيرة والشرود الذهني، وهذا واحد من مبادئ المحكي الملتاع. والسارد (المؤنث) في رواية “الحافيات” قلق وشارد الذهن يفكر في المصير الغامض، ويتذكر الماضي بحرقة وألم، ويكشف عن الحاضر بمآسيه وخذلانه، وهو سارد يبحث عن الحقيقة، فهناك دائما سرٌّ يجب كشفه وتعريته، تبحث “وفاء” عن والد ابنيها (ماهر وساهر) لتحل عقدة العلاقة الثلاثية بينها وبين زوجها (ناصيف) ووالد ابنيها المجهول الهوية. وتبحث “فضيلة” عن الأمومة وعن أنوثتها المهدورتين، فتدخل هي كذلك في علاقة ثلاثية يائسة بينها وبين زوجها (صاحب) وعشيقها (عبد) هنالك ببلاد المهجر.
هناك سرٌّ ومسار مضنٍ للبحث عن الحل وعن الحقيقة، لكن ينتهي البحث دائما عند ذات القضية المحورية والوجودية: اكتشاف الذات والعودة إلى تجديد الأمل في الحياة والناس والحب. والسارد القلق يميل إلى المحكي النفسي الباطني “المونولوج”، ليبوح بالأسرار ويعترف بالهواجس وأحلام اليقظة التي تفضح المسكوت عنه قهرا في الواقع وفي وضح النهار وتحت مبادئ الحياء والحشمة والعائلة…
المونولوج الطويل (محاورة الذات): يعتبر “الحوار الداخلي” من أبرز ملامح الخطاب المسترسل الملتاع حيث تسترسل الذات في حوار طويل وأحادي البعد مع نفسها، فيه الكثير من “البوح” و “الاعتراف“. وليس الحوار الداخلي حاملا للمعنى الإيجابي في كثير من الأحيان بل هو في عدد من المواقف يكون مهربا وتقوقعا وعزلة وانفرادا وإقصاء ذاتيا واختيارا شخصيا، ويكون كذلك إعلانا عن عجز الذات أمام الخارج المحيط والقاهر الذي يتجاوز كل الحدود المنطقية والمعقولة، ويقوم على تحالفات يفرضها منطق الجماعة وسلطتها واستمرار سيادتها كما تحالفت أسرة “وفاء” مع أسرة زوجها حفاظا على العرف القروي وخضوعها لرغبة “منيرة” المتسلطة.
والحوار الداخلي في محكي “وفاء” ومحكي “فضيلة” نجد فيه رفضا صريحا للواقع الخارجي المليء بالمآسي والحروب التي تفتك بالفرد قبل الجماعة، لكنه؛ أي الحوار الداخلي، يجعل من الذات ملاذا وقلعة أخيرا لحماية ما تبقى من الهوية ومن الكينونة اللتين تم انتهاكهما وزُجَّ بهما في التنور حيث يحرق تاريخ الذات تحت ضغط الخارج والجماعة المتسلطة.
يلائم الحوار الداخلي شخصية السارد القلق وشارد الذهن، ويسمح للذاكرة بالتدفق في محكي مسترسل ملتاع وجارف، لكن “المونولوج” لا توافقه غير اللغة الشعرية المجنحة.
اللغة الشعرية (الوجود اللغوي): تروي الحكايتان مآسي “وفاء” و “فضيلة” الشخصية، مأساة الأسرة المشردة خارج الوطن، ومأساة الزوج العقيم لـ “وفاء” والزوج المنهار والمنكسر لـ “فضيلة“، ومأساة الأعراف والموروث الشعبي الذي يثقل كاهل الفرد، ومأساة العالم العربي المتدهور، ومأساة المهاجرين العرب في بلاد الغرب بين الحنين الفتاك، والبطالة المذلة، والسياسات المتواطئة المخجلة…
توظف الكاتبة (دينا سليم) لغة شعرية مليئة بالأوجه البلاغية سواء في المونولوج أو في سرد الوقائع أو وصف الحالة، كما في مجتزأ وصف حالات الضياع وبداية رحلة التيه الآتي:” ضبطنا ألسنتنا التي ابتلعتها الذئاب وعيوننا متوقدة بحذر، عدونا بأنصافنا، سحبنا عربة من الهموم على ظهورنا، وأجسادنا التي تآكلت من كثرة ما بحثنا عن الظلال. مشينا طويلا تحت سقف عار ونحن نحمل أرواحنا بأيدينا، أحسسنا بظمأ الأماكن التي مررنا بها، ولم يكن بوسعنا إلا أن ننعي حالنا نعيا جماعيا:
- نحن أبناء الصدفة المريرة… …. هي التي تتجول معنا!” ص (101)
عالم المآسي (الفاجعة): إن المونولوج الداخلي يرهق الذات بالأسئلة الوجودية الصعبة من قبيل سؤال الهوية: من أنا؟ ومن أكون؟ كما نجد في محكي “فضيلة” أو من قبيل أسئلة المصير كما في محكي “وفاء“. يتأسس عالم الفاجعة على عدد من المآسي الشخصية المرتبطة بالفرد وهمومه الخاصة، وعدد من المآسي الخارجية التي تتسبب فيها البلاد التي لا تخرج من حرب إلا وتدخل أخرى، أو تتسبب فيها أحكام “القبيلة” و “الجماعة”.
من المآسي الشخصية يمكن الوقوف مع شخصية “وفاء” على مأساة الإنجاب عبر التلقيح الاصطناعي (بنك الزرع) من رجل مجهول، حملت منه بولدين هما (ماهر وساهر)، سال ماؤه في رحمها وتشكل طفلين جميلين لتداري عقم زوجها ولتتستر على ما يعتبر في القرية وصمة عار، وقرار العثور على الأب المجهول الذي باء بالفشل عَمَّقَ إحساس الشخصية بالضياع وباللاجدوى، لقد فقدت زوجها عندما عجز عن حمايتها من “منيرة” والنسوة اللائي أبحن خصوصياتها الحميمة، وكرهته لزيف تصرفه وتظاهره بالحب والتفاهم بين الناس وهما لم يحبا بعضهما أبدا، وقد فقدت ابنيها عندما هاجرا بعيدا يحملان جرحا نازفا وغير قابل للالتئام. لكنها بالمقابل اكتسبت حريتها وحققت ذاتها بالتخلص من ظل “منيرة” وقهرها وسلطتها، ووقوفها حرة أمام مرآة ذاتها ومعاودة الحياة من جديد.
أما “فضيلة” فمآسيها الشخصية متعددة كذلك، مأساتها الأولى تمثلت في كونها الفتاة الوحيدة لأسرة جاءت بعد خمسة أبناء ذكور، وأنها متأرجحة بين أمين؛ أمٌّ أنجبتها وأم أحبتها وأعجبت بشخصيتها المرحة والأنثوية، لذلك نشأت بميول “رجالية“، امرأة شجاعة مقتحمة ومخاطرة، ورجولتها تلك ستكون سببا في عدم قدرتها على الإنجاب، وستحرمها من “الأمومة“. الإحساس بالأمومة هو المأساة الشخصية الثانية لدى “فضيلة“، مأساتها الشخصية الثالثة جاءت بعد خبر “التجنيد الإجباري” الذي سيخلف وراءه “نادر” المنتحر و”فاضل” المجنون، وهما معا سيتركان شرخا غائرا في نفس “فضيلة”، والمأساة الرابعة تتمثل في تنكر الأب لأبنائه تحت الخوف والضغط، وكذلك موت الأمين، وموت الأب، والرحيل والتيه في بلاد الغرب، وفقدان الزوج “صاحب” والتخلي عن العشيق “عبد”، وهكذا…
حكاية “فضيلة” مليئة بالمآسي، لكن المآسي الشخصية في رواية من روايات “تكوين الشخصية” كرواية دينا سليم “الحافيات” تبدو أكثر إلحاحا وأكثر تأثيرا في مسار السرد وتشكيل الحكاية المتخيلة.
*******
لقد استطاعت دينا سليم في روايتها تصوير مآسي الفرد المعاصر (المرأة) خاصة، لكن لا يمكن اعتبار كتابتها “كتابة نسوية” تصدر عن موقف إيديولوجي عدائي نحو الرجل، لأن للرجل مكانة مميزة في الرواية، اقتربت الكاتبة من همومه التي أورثه إياها المجتمع والعادات والتقاليد والأعراف المتداولة، وقد صورت بدقة محنة “ناصيف” الرجل الذي فقد شخصيته أمام قوة شخصية أمه “منيرة” وسلطتها، وصورت محنة “صاحب” أمام قوة وفورة زوجته “فضيلة”، وصورت انسحاقه تحت الشعور بانتهاء العقب وعجزه عن إخصاب “فضيلة” والحصول على مولود منها، كما صورته وهو تحت وطأة الهروب من الوطن وسقوطه في البطالة والإدمان في بلاد المهجر مثل جل الرجال الذين أخصاهم الغرب وحولهم إلى مجرد مرتادي الحانات ومجتري الذكريات وحكايات الفحولة.
واستطاعت دينا سليم في روايتها وعبر حكايتي “وفاء” و “فضيلة” طرح قضايا فكرية عميقة طرحتها في سياقات سردية متخيلة مقنعة، من قبيل “سؤال المصير” عبر وضع الذات المتألمة والمنكسرة في مواجهة مصيرها عبر لعبة تجاذب بين القوة والضعف، فلا خيار بينهما؛ إما أن تكون قويا فتشق طريقا نحو الخلاص أو تكون ضعيفا فترزح تحت نير القهر والذل، فتفقد حقيقة وجودك، هنا أيضا، وتبعا لسؤال المصير تطرح الكاتبة على القارئ عبر شخصيات الرواية وعوالمها التفكير في سؤال الوجود، هل المآسي نهاية للوجود ومنحدره نحو الفناء والتلاشي أم أنها حافز نحو مواجهة ثقل العالم وهمومه؟ وللتغلب على الحالتين الوجوديتين ينبغي التعرف على حقيقة الذات، أي الوعي بالذات وهو المنطلق الحق نحو “تكوين الشخصية” القوية التي يمكنها تجاوز محن الفرد وعوائق المجتمع المعاصر الذي تبدلت قيمه وتغيرت معاييره فأصبح أكثر قسوة وأقل إنسانية.
انطلاقا من هموم شخصيتي “وفاء” و “فضيلة” عكست الكاتبة دينا سليم صورة الواقع العربي وكشفت عن مآسي يتخبط فيها الكثير من الأفراد نساء ورجالا. وانطلاقا من تذكر الشخصية رسمت الكاتبة معالم المحكي المسترسل الملتاع بأبعاده القلقة والوجودية، وبانسياب وتدفق السرد وتتابع الأحداث والوقائع النابعة من الذات والمنفتحة على الآخر والمجتمع، بلغة شديدة الشاعرية.
سليم،دينا: الحافيات. منشورات دار أزمنة. ط 1. 2008م
سلا- المغرب
18-08-2011م