نورهان محمود راشد
ترتبط معي ذكرى إلقاء القبض على الرئيس العراقي صدام حسين بكراسات الرسم، والألوان المائية، وأوراق القص واللصق، التي كانت تأتيني على هيئة رشوة من أمي، على أمل ألا أشغل أختي عن اِمتحاناتها التي كنت أنتهي منها قبلها بوقت غير قصير، وأحيانًا كنت أُمنَحُ حق اللجوء إلى بيت أحدى خالاتي، اِتِّقاءً لشر شقاوتي ومشاغباتي؛ لكن حتى الانتقال لم يقطع حبل الأحاديث التي تتمحور حول الحدث. فالجميع يتحدث عن صدام حسين، واِكتشفت للمرة الأولى أنَّ هناك دولاً أخرى يعيش فيها بشرٌ أخرون، وأن أحدها يسمى العراق، الذي أتى دائمًا مقترنًا بأخرى تسمى الكويت. وبالطبع لم أفهم وقتها تلك الرابطة بينهما، ولا أنها أحد أسباب الحدث الدائر حاليًا؛ لكن هذا لا يمنع اِمتلاكي أسئلتي الخاصة، أهمها: “هل تحيا إحدى شبيهاتي الأربعين اللواتي حكت لي جدتي عنهن بالعراق؟”، و”هل تعرفني؟”، و”ماذا لو قررت الحضور لمصر، هل يمكن أن ترضى بها أسرتي كبديل لي؟”
أرقتني هذه الأسئلة كثيرًا، ومع الوقت قررت سن أسلحتي، فلا أحد يعلم من أين تأتي الضربة. فبدأت بجمع فرشاتي وقصاصات أوراقي بعد الانتهاء من اللعب، كما أعلنت لأمي تنازلي عن رحلتي لبيت خالاتي لرغبتي بعدم مفارقتها. وحرصت على ترتيب فراشي، بل أذكر يومًا أنني عرضت مساعدتي في الطهي لكنها قوبلت بالرفض، تجنبًا لكوارث أكبر، وكان ذلك كله ضربًا من الخداع الاستراتيجي، لحماية حق بقائي بالمنزل من خطر تهديد شبيهاتي الأربعين
ومع مطلع النصف الثاني من العام الدراسي بالصف الأول الابتدائي، بدأ الحدث يأخذ اِتجاهات أخرى، فمثلاً كَذَّب كثيرون السلطات الأميركية والمارينز الذين تولوا عملية إلقاء القبض على رئيس العراق الأسبق، وبدأت شائعات تؤكد أنه شوهد يدور بسيارته بين الحشود داخل أحد شوارع العراق، يلوح بيده كعادته. وأخرون يدعون هروبه بعد إلقاء القبض عليه، وغيرهم يؤكد وجود نسخ متعددة منه، ولا أحد يعلم أين الأصل. وبالنسبة للمحيطين بي، الذين رفعوا شعار الكارثة التي لا تحرق نيرانها أقدامنا لا تخصنا، كان تداول الشائعات هو التفاعل الأكبر مع الحدث، أما بالنسبة لي فقد اِتخذ الحدث مسارًا أخر، فقد قررت إنزال نادية الجندي عن عرش قدوتي، ورفع صدام حسين عليه
ومع اللحظة الأولى التي التحقت فيها بالصف الثاني الابتدائي، قررت أنه سيكون عام الحسم، وأن سنوات الطفولة قد مضت، وينبغي من اليوم أن أصنع دوري بنفسي داخل حدود مجتمع (class B)، وبدأت بدراسة ملامح شخصية المحيطين بي من زملائي، وذلك بعد الاطمئنان على أمني الشخصي، حين وضع مشرف الدور قواعد مشددة تمنع تلاميذ (class A) من التحرش بنا
كان فصلنا يحوي نخبة من الأديان، ونحن حين نتحدث عن الأديان بمصر فنعني المسيحيين والمسلمين، إذ أنني لم أر يهودًا بحياتي هنا؛ لكني سمعت عنهم الكثير، إلا أنّنا اِمتلكنا تنوعًا أكبر قليلاً، ففي أحد الأيام بدأ أحد تلاميذ فصلنا بالبكاء، وحين جاءت المعلمة متسائلة عن السبب تبين أن التلميذ “كاثوليكي” وليس “أرثوذوكسي”، وهم الغالبية العظمى بمصر، وسبب البكاء بدأ حين اِفتُضِحَ أمرهُ في حصة الدين المسيحي، بسؤاله عن موعد يوم العيد، فأجاب ببراءة “25 ديسمبر”، فقامت القيامة من الطلاب الآخرين. وعلى الرغم من توضيح المعلمة للفارق الذي أدى لاختلاف يوم الاحتفال بالعيد، أصر باقي التلاميذ على الضغط عليه، تشبقًا بروح الأغلبية التي تتكاثر على الضعيف، وبدأ تجنبه في لعب الكرة وغيرها من الأنشطة التي تتطلب العمل الجماعي. والأمر برمته كان لا يتعدى مزحة من زميل أخر؛ لكن تكرارها غذى بداخله شعور النبذ، خاصة مع وجود كنيسة واحدة يرتادها جميع الطلاب المسيحيين بالمدرسة وأسرهم نتيجة لاستقرارهم بالمنطقة ذاتها، ما عداه هو، وهم يقضون مطلع كل عام يتحاكون عن رحلات الكشافة التي جمعتهم خلال فصل الصيف، وحين يبدأ هو بالحكي يكذبونه، لأنهم لم يشاهدوه معهم بالكنيسة، ولم يرتادوا كنيسته أبدًا
في البداية كنت أراه يبالغ، فأنا أيضًا أشعر بالغيرة من تلك الرحلات التي تنظمها الكنيسة؛ لكن لم يسبق لي البكاء من غيرتي، وسبق أن طلبت من أمي السماح لي بمرافقة صديقي “أبانوب” و”كيرلس” إلى إحدى تلك الرحلات، وكانت تقول: “السنة الجاية إن شاء الله، أما أغير اِسمك في الشهادة، وأخليه ماريا، ولا تحبي أخليه بولا، عشان أنا بحب نادية لطفي؟”
فتجيب أختي: “لا نخليه أبانوب يا ماما على اِسم صاحبها”
بالطبع لم أكن لأقبل بإسم “بولا”، ولا أصدق أنه يطلق على الفتيات والفتيان معًا، ولن يدفعني الوفاء لحمل اِسم “أبانوب” على عاتقي. وطالما الاسم لي فلابد أن أختاره بنفسي، فكنت أجيب بثقة: “لا نخليه مارتينا”
لكن اليوم الموعود لا يأتي أبدًا، وتتحجج أمي بأن السجل المدني مغلق اليوم، وغدًا سنذهب لنرى أمر الاسم، وبالطبع ذاك الغد لم يأتي أبدًا. و لم يشغلني كثيرًا، خاصة حين بدأت بالانتباه إلى حلم الزعامة الذي راودني منذ مطلع الأحداث، حتى اِستيقظت يومًا على صوت داخلي يحدثني قائلاً: “لقد حانت الفرصة”. وفي منتصف اليوم ذاته، بالتحديد وقت الفسحة بعد الحصة الرابعة، وجدت “أندرو” (الكاثوليكي) يوشك على البكاء كعادته، بعد اِستبعاده من اللعب، وتهديده بإلقاء حقيبته من نافذة الفصل لولا اِحتوائها على كتاب دين، وهو أمر لا يمكن تجاهله من قبل أبناء شعبنا المتدين بطبعه، وهنا قررت التدخل. توجهت إلى الجلوس في المقعد المواجه له، وقلت بصوت قيادي: “أندرو، أنا هحللك المشكلة”
لا أذكر تفاصيل الحوار الذي دار بيننا؛ لكني أذكر اِقتراحي عليه إدعاء أنه “أرثوذوكسي” بالأصل، إلا أنَّه كان مخطوفًا الفترة الماضية، وتم اِستبداله بـ”أندرو” أخر، اِدَّعى أنَّه “كاثوليكي”. لم يستوعب الفكرة، ولم أكن لأخبره بأنني اِستقيتها من قصة مطاردة “صدام حسين”. واِقترحت عليه أيضًا أن يدعي إصابته بالبكم، فلا يتحدث أبدًا بعد اليوم، لكن الأمر بدا صعبًا، لذلك لم يكن هناك بدٌ من المواجهة، لذا قررت عقد جلسة جماعية، شهدها الفصل بأكمله، بعد انتهاء الفسحة. وقفت بمنتصف الفصل، وأعلنت قرارات فض النزاع المتفق عليها، وهي كالآتي: “ليه نتخانق على إجازة يوم العيد لما ممكن ناخد أربع إجازات، إجازة عيد الكاثوليك وأجازة عيد الأرثوزكس وأجازة عيد اللحمة وإجازة عيد الكحك؟”.
فقاطعتني زميلة لي قائلة: “وأجازة عيد الترمس”، وأخرى: “وأجازة عيد القصب”، فأتاهما صوت من بعيد: “اِسمه حد الزعف يا عبيطة”. فبدأت تبكي وكان المتحدث هو زميلنا “أندرو”، لكن الأرثوزوكسي الذي كان متزعمًا حركة السخرية من الجميع، وليس “أندرو” الأخر فقط. وقد حاولت السيطرة على الأمر من جديد، فاقترحت عليهم جميعًا ترك كنائسهم، والمجيء لكنيسة جديدة تقع جوار منزلي، لكن اتضح لي بعد سنوات أنها تابعة للطائفة الإنجيلية و استغرق الأمر سنوات أخرى لفهم معنى الكلمة
ومع تأخر المعلم عن الدخول للفصل، اِشتدت حدة النقاشات، وبدأ كلا الـ”أندروين” في العراك، ولما جاءت مشرفة الدور، اِنسحبت من موقعي بمنتصف الفصل بهدوء، وعدت إلى مقعدي بالصف، متمنية ألا يذكر اسمي أمام المديرة، التي تم جرّهم إليها
والحمد لله لم يذكر إسمي، كما لم يتذكر أحد ما دار في النقاش وغالبا لم يستوعبه أحد، لكن أذكر أننا أمضينا
العام بأكمله نُعاير بأن (classA) أكثر هدوءًا منا
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
مقال رائع
كل الشكر لك