الشاعر حبيب يونس للصفا نيوز
خاضت البروفسورة في علم النفس الأستاذة الجامعية ديزيريه قزي والمدير السابق لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية الشاعر الدكتور ديزيره حبيب سقال، مغامرة كتابية غير مسبوقة. فألفا معًا كتاب “الإبداع الأدبي والتحليل النفسي”. ثمة من عرَّب اسمهما ديزيره أو ديزيريه بالمروم، فوضع الدكتوران المرومان، ديزيريه الحبيبة، وديزيره حبيب، قصائد لخمسة شعراء تحت مجهر. كلٌّ منهما من زاوية. السَّقال بما له من طولى، في دراسة النص ونقده ووضعه في بروازه الصَّحيح. وقزي بما لم يسبِقْها عليه أحدٌ، وهذه فرادة كتابهما المشترك، أي أنسنة القصيدة باستجوابها نفسيًّا وسريريًّا، فأعادت بذلك تأطير الشاعر المؤطَّر في الذَّاكرة، لترينا إيَّاه ضمن بِروازٍ جديد.
وإذا كان للسقال أن يصول ويجول في تقويمه أيَّ نص، وهذا عهدي به، وعهدُ كثرٍ ممن عرفوه، فإن لقزي بإسقاطها أدوات علمٍ حديث على نصٍّ قديمٍ يُقرأ انطباعيًّا ونقديًّا، إنَّما لتجربة جرئة أدعوها والسَّقال إلى استكمالها، بافتراض طرحته عليهما في ندوة أقيمت في الحركة الثقافية – أنطلياس.
دعْك من مازوشية قيس لبنى، أو الحَيْرة في الحكم على بدر شاكر السياب، أمازوشيًّا كان أم لا، كذلك دعك من نرجسيَّة عمر بن أبي ربيعة وهُذاء أبي الطيب المتنبي، واكتئاب صلاح عبدالصبور، وقد تلاقت النتيجة أكثر مما اختلفت في قراءة نصوص الشعراء الخمسة وَفق المنهج النَّفسيِّ والتحليلِ السريري.
دعْك… وحاول أن تقع على مسودَّةِ أيٍّ من القصائد التي شرَّحها المرومان، في كتابهما. وإذا كان الأمر مستحيلًا، فأجرِ التجربة الإبداعو – نفسية سريرية، على مسودَّةِ نصٍّ لأيِّ كاتبٍ حيٍّ، السَّقال نموذجًا. واقرأ ثم استنتج واعتبر.
سبق لي أن عبَّرت عن نوستالجيايَ إلى المسودات، حين شرعت في اعتناق الكومبيوتر. وكتبت: حرمتني الكتابةُ على الكومبيوتر، بعد سنينَ طويلة من علاقةٍ حميمة مع القلم والورقة، لذَّةَ التَّأمُّل بالمسودة. مسودَّةٌ كان يُعمِل فيها القلم تصحيحًا وإضافاتٍ، تتعرَّضُ للتمزيق أحيانًا، أو “تتجعلَكُ” أحيانًا أخرى، بعد أن تجولَ على زوايا البيت أو المكتب جميعًا، قبل أن تُحوَّل على علَّاتها الشكليَّة إلى قسم التَّنضيد، أو تنضمَّ إلى دُرج الأوراق الخاصة.
لذَّةٌ أن تستعيدَ، وأنت تنظرُ إلى المسودَّة، كيف تطورتِ الفكرةُ أو الرأي. كيف خرجت إلى النور، ومن أيِّ رحِم. كيف نهاك رقيبُك الداخلي، مثلًا، عن قول، أو دفعتك حماستُك إلى قول آخر. كيف استنبطتَ النهاية أو بيتَ القصيد، وفي أيِّ وقت. وكيف تبدَّل خطُّك من فَرِحٍ إلى مُتعَب…
لذَّةٌ لا مكان لها على شاشة كومبيوتر حيث الصفحةُ أنيقة مرتبة واضحة… لا غبارَ يعلوها، ولا شائبةَ تشوبها، ومكانها محفوظٌ في الذاكرة الإلكترونية، كما في ذاكرتك.
لذَّة أضحي بها من أجل التطور والتقدم، لضرورات العمل. لكنني أتقصَّد استرجاعها، بين حين وحين، كمن يعيش في غربته نوستالجياه إلى وطنه. فوطني الأول والثاني والثالث… والدائم، يبقى الورقَ والحبرَ والكلمة، مهما اتَّسعت الجغرافيا وعَمُق التاريخ وطالت الغربة.
ربما لن يتغير كثيرًا الأمر على السقال، إذا أراد تناولَ نصٍ، مسودةً، قبل طبعه، لأن أحكامه النقدية لا تنطلق من نزوة أو هوًى، بمقدار ما ترتكز على معاييرَ جمالية أكسبته إياها، تلك الطولى، عبر الأعوام.
ولكن تخيَّل معي ديزيريه الحبيبة. تتصل المسودة بعيادتها. تضرب لها موعدًا. تأتي المسودة على الموعد، تدخل، من فورها، من دون المرور بغرفة الانتظار. تستوي على كرسي، أو على “شاريو”، وتروح قزي، وهي تضع نظارتي الطبيبة النفسية، وترتدي البرنس الأبيض، تعاينها. فتسألها: لمَ تطغى الخرطشات، على الكلمات الواضحة فيك أيتها المسودة؟ لمَ لم تُكملي فكرة جميلة كانت ستُنقذ النص من انكسار؟ هيهاتَ لو وسعت مساحة العطر في فكرتك الرومنسية لازدان النص بألف ربيع… وعلوَّاه لو استفضتِ في دفق المشاعر حين قاسيت ألم الفراق، لترتبت على النص نهاية أجمل.
يا عزيزيَّ المرومين، افترضا معي هذه المشهدية. أنتما تنعمان النظر أدبيًّا ونقديًّا، نفسيًّا وسريريًّا، في نصٍّ مطبوع خالٍ من الشوائب، ولو الشكلية. ربما لم يكن خيار الكاتب أن يخرجه إلى العلن بصيغته التي بين أيديكما. وقد تكون وطأة الحاجة إلى نشره، أقوى من الرغبة في التأني في إظهاره. هلَّا فكرتما في أن يكون الناشر قد فرض على الكاتب أسلوبًا في النصِّ وأفكارًا واستنتاجاتٍ، تلقى ترويجًا أفضل وأسرع؟ لعن الله الرايتينغ ومن يشدُّ على مشده.
عودا، أيها المرومان، في كتابكما المقبل، إلى المسودة. إلى حقيقة الكاتب بتجلياتها وأخطائها، بتحليقها وانكساراتها، بقوتها ووهَنها، بفرادتها وبساطتها، بجُرأتها وحيرتها. تلك المسودة هي السَّرير الذي يتمدد عليه الكاتب عاريًا إلا من جوهر حقيقته، قبل أن يحاولَ إخفاءها، حين ينشر نصه.
ليس من زمان عرفت أن السقال لا يكتب قصيدة إلا بالقلم على ورقة. فيما تعملُ أنملُه العشر تأليفًا وأبحاثًا على كيبورد الكومبيوتر.
ضع بين يدي المروم الجميلة، يا سقالُ، مسودةَ نصٍّ، خلِّ من تقدِرُ كفايتَه يقرأْه إبداعيًّا، واختارا مسودات لنصوص شعراء أو كتاب معاصرين، وعاودا التجربة.
أيها المرومان… خُذا المسودة بقوة.