هي مدينة البدايات و السفر البعيد، آخر حدود الوطن، وأول قبلات العائدين ، مكتنز أسرار وذكريات الأردنيين، ورحلة الفرح في مواسم الحب والرضا، يعشقون لونها وبحرها وحضنها الدافئ بعد أن ينال منهم التعب والإرهاق؛ فيجدون فيها صفاء للقلوب وراحة للأبدان .
في طريق العودة، مكثت طويلًا عند كل شرفة مطلة على شاطئ الوقت والمكان ، ألملم ما ضاع مني في هذه المدينة الصامتة الحالمة بالحرية والحب، فكنت صديقها البار ورفيق سمرها في رحلة الشباب.
كلما توقفت، أستفيق على الصرخات واللعنات وأنا مكبل؛ إما على إشارة ضوئيّةٍ، أو على طريق مزدحم، فلا يعنيهم من أين أتيت، أو ما أنت فيه من ثورة أفكار ممزوجة بالذكريات والأمنيات، لأكثر من خمسة أعوام ، انتهت على أرصفة الخوف والقلق فكان الرحيل والضياع محملًا بجسد من غير روح، ونبض لقلب لا يعرف مكانه .
عند الغروب، كان لا بد لي أن أجلس في مكانٍ، كنا قد اتخذناه أنا وفيروز مقرًّا وموعدًا طوال تلك الحقبة من الزمن، أتمتم في سري وأنا متوجهٌ إلى هناك؛ حيث البداية والنهاية، والنار والجليد ، لكنه الحب؛ سيد الحضور مهما تعثرت أقدامه فلا غالب ولا مغلوب ، يقطر شهده من شغاف القلب؛ ليروِيَ ظمأ النبض ، وتستقيم الحياة، وتستكين الانفعالات والآهات والرجفات في رشفة لقاء، أو نظرة حنين.
تلك الأيام ما زالت تسكنني وقد هاجرت لأوروبا ، بعد أن نال العشق مني ما نال، وأنا المسافر بلا وداع والصامت من قاموس الاستفهام حيث القرار بلا تردد أو تعليل ..
جلست مسافرًا عبر موسيقى المقهى المجاور للمكان، والذي كان صاحبه ينظر إلي باستغراب أثار فيَّ الفضول ، وحينما أحضر لي القهوة قلت له :
ما بك ؟ لماذا تنظر إلي مستهجنًا مستغربًا ؟ هل ثمة شيء ما ؟
أجاب صاحب المقهى: لا يا سيدي، ولكن كل يوم ما بين العصر والمغرب، تجلس على هذا المقعد سيدة أربعينية ما جعلني أُدهَش هكذا .
قلت له: صفها لي وكيف تمضي وقتها ؟
أجابني: جميلة كبياض الثلج، شفتاها تقطرشهدًا حين تتكلم، وأجفانها تومض بالرقة والسموّ .
أحيانًا تجدها تتأمل المكان، وأحيانًا تقرأ، وأحيانًا أخرى تكتب، وكل ما تفعله يتسم بالاتزان ، تفعله بصمتٍ ووقار .
اليوم جاءت وسألتني هل ما زال مكانها شاغرًا أم لا؟ وحين رأتك عادت أدراجها من حيث أتت.
استوقفني هذا الحوار، فذهبت إلى البيت، عازمًا على الذهاب في اليوم التالي في موعد قدومها، لقد كان كل شيء ممتلئًا بالحيرة والقلق والشكوك، وأنا أمضي من خلفها لأجد مكانًا قريبًا أستطيع أن أراها منه.
جلست وأنا أستذكر كلام صاحب المقهى، وكأنه يقول لي إنها فيروز؛ وهو يصفها بكلمات أثارت في نفسي الفضول .
نظرتي لها كانت تحمل لبرهةٍ كل تضاد في هذه الدنيا ، غير أنها لم تكن هي، وإن كان بعض الشبه موجود؛ ما أعاد لي جزءًا مما فقدته من شتات، أتنقل بخطوات أكثر ثقة وهي تبتسم فرحًا، فحين سألتها هل لي أن أعرف من أنت وما سر هذا المكان؟.
أجابت متجاهلة مضمون الأسئلة: لقد كان قدومك خيرًا؛ فقد أقفلت النهاية على روايتي أخيرًا، وأخذت تلملم أوراقها على الترتيب وتقول: هذا المكان لك وحين جمعت الأوراق كان عنوان الرواية فيروز .
تبعتها إلى باب المقهى وقلت: لم تجيبي عن سؤالي، وما سر العنوان؟ ففيروز والمكان هما سر من أسرار حياتي .
صمتت برهة ثم استعجلت الخروج وهي تقول :
فقط عليك أن تصبر ثلاثة أسابيع، ستكون الرواية في مكتبة بوابة العقبة …