اما وقد طرقنا باب الخمسين أصبحت تنطبق علينا المقولة الشهيرة : لم يبقى من العمر اكثر مما مضى. ! مع العلم ان الذين تجاوزوا المئة عام يزدادون سنة بعد سنة ، و ربما وصلنا الدور …من يدري ..؟ رغم إحباط ابو العلاء المعري :
” ومن يعش ثمانين حولا…لا ابا لك يسأم “…
كلما وطأت الأرض الباريسية منذ سنوات يطالعني كل صباح على صدر الصفحات الأولى من الصحف و المجلات السؤال ذاته :
” الموت الرحيم “…لا يعرفون كيف يتخلصون من مرضاهم ومن عجزتهم و من الضعفاء في شعبهم…
يا جماعة انا آت من بلاد خبيرة بكل أنواع الموت : الرحيم ..و من هو بلا رحمة ..و المفاجئ..و المدروس.. في الاقبية او في السجون…او في المقابر الجماعية التي نكتشفها يوما بعد يوم من مخلفات عهود متعاقبة…بالسلاح الأبيض او بالكيماوي الأصفر…او بالرصاص الحديث الصنع …كله موجود عندنا على مد عينيك والنظر ….فما حاجتي بثقافة ” الموت الرحيم “…؟
لا…الموضوع هنا مسألة ” حضارية ” يكل ما في الكلمة من معنى …انها تعيد طرح موضوع أهمية الحياة البشرية بعد ان فرغوا من توفير افضل وسائل الذبح بدون عذاب للبقر و الخراف و ما بقي من الكائنات…
الحمير وحدها ” نفدت بجلدها ” حتى الآن….مع العلم ان هذا غير مؤكد .ففي مصر مثلا لاحظوا في الآونة الأخيرة ان معشر الحمير يتناقص بشكل لافت للنظر إذ تراجعت اعدادهم من ثلاثة ملايين قبل بضع سنوات إلى مليون فقط اليوم . وبما انه لا يتم تصديرهم يمكنكم ان تتصوروا اين انتهوا..!
لا .المسألة في الغرب جدية و لها انعكاسات سياسية .
في فرنسا مثلا معسكر اليسار العريض جدا الذي يضم كل الاطياف من الإشتراكيين إلى انصار البيئة إلى محازبي ” فرنسا الابية – Jean Luc Mélenchon – وصولا إلى الوسط الليبرالي ، كلهم مع فكرة ” الموت الرحيم “…
اما أحزاب اليمين بشكل عام ، و اليمين المتطرف على وجه الخصوص – و هو مرشح بقوة للفوز بالانتخابات الرئاسية بعد عامين – فهي تعارض تماما هذه الفكرة….
هل الإنسان حر التصرف بجسده…؟
في جوهر هذه المسألة سؤالان :
– الاول هو : هل الإنسان حر بالتصرف بجسده . ؟
–الثاني هو : هل يحق لك ان تساعده على وضع حد لحياته ، حتى لو طلب ذلك ، او تعجل برحيله بعد ان يصبح ميؤوسا من شفائه…؟
في الأديان السماوية ، كما في المجتمعات التقليدية ، الحياة مقدسة ، و هي من الخالق و اليه. كما ان روابط الدم والعائلة لا تسمح بالتخلي عن أي فرد منها مهما كانت حالته .
اما في المجتمعات القائمة على الإنتاجية و قيم السوق و اسعار الدولار ، فقيمة المرء تقاس بمدى قدرته على العطاء و المنافسة تماما كما في المسابقات الرياضية : أقوى، اسرع ، أعلى…
و كم من عائلة ركنت كبارها في مآوي العجزة ، و دور الرعاية بانتظار زائر وحيد : الموت …
و في النصوص التي يناقشها مجلس النواب الفرنسي منذ ثلاثة أعوام ما يعتبر ” المساعدة على الانتحار ” ، و تسهيل ” الموت الرحيم ” بالحقن المناسبة ، بمثابة ” عناية فائقة ” و ” أعلى أنواع العلاج ” التي تعطى للمريض!!
لا بل تجري مناقشة نص يعاقب من يقف حائلا دون مساعدة المريض على الموت !
شكرا ربي أننا ما زلنا في بلاد ” متخلفة ” تحافظ على ذوي القربى ، و لا تقيس الاهل و القريب و العجوز بميزان الربح و الخسارة ، بعد ان يكون قد افنى حياته في خدمة من انجب و من أحب ..!
بشرى من صندوق النقد للدولي …!
ليس كل ما يأتي من صندوق النقد الدولي مشكوك في أمره ، ما عدا تواطئه مع بعض اللصوص …
هنا الأمور اكثر جدية و شفافية .
ففي دراسة صادرة عن الصندوق بتاريخ أبريل/ نيسان 2025 جاء بالحرف ما يلي،: ” ان الإنسان الذي عمره 70 سنة عام 2022 , يمتلك نفس الطاقات المعرفية -،cognitives – الذي كان يمتلكها انسان عمره 53 سنة عام 2000..” ..
كانت تلك خلاصة دراسة أجريت على مليون شخص ينتمون إلى 29 بلدا – بما في ذلك الولايات المتحدة و فرنسا ؤ الهند و الصين – بين عامي 2000 و 2022….
إضافة إلى ذلك تبين ان مدة الحياة زادت بمعدل اربع سنوات و نصف السنة خلال العقدين الماضيين ….
طبعا سيكون لهذا الأمر انعكاسات كثيرة على سوق العمل ، و على تعاقب الأجيال، مما يعطي بعدا آخر للزائر الجديد : الذكاء الاصطناعي …
ايها الكتاب و الصحفيون …ضبضبوا اقلامكم..!
” الذكاء الاصطناعي ” الذي يطرق الأبواب بقوة هذه الأيام ليس زائرا عاديا….انه هنا لكي يحتل امكنتنا ، و لكي يخرجنا من بيوتنا ، و يرمينا على أطراف الشارع… ما “فارقه معه “…
هذا الزائر لا يعرف شيء اسمه ” عواطف” ، او ” اخلاق ” او ” مبادئ “…انه. ” عقل مجرد ” او إذا أردتم ” مجرد عقل ” …لا اريد ان ادخل فيمن اخترعه و فيمن يستخدمه يوميا فوق رؤوسنا …لكنه شيء مخيف لا رادع له….
يجب ان نعلم انه عندما تقاس المسافة بينك وبين اي كان بالعلم …تكون الأمور محسومة نهائيا..!
هذا ” العقل المجرد ” سيحرم الكثيرين من وظائفهم و بخاصة من يتعاطون مهنة القلم…
العجيب في الموضوع ان كل من يتعاطون بعقولهم -إذا وجدت طبعا -سوف يحالون واحدا بعد الآخر ألى التقاعد …
اما الذين يتعاملون بأيديهم فسوف يسلمون من الاذى ….
بمعنى آخر لن يتمكن الذكاء الاصطناعي ان يدخل إلى مطبخك لإصلاح حنفية مهترئة ، او لمد أنبوب مثقوب ، و لكنه يمكن ان يعرف ماذا يدور في رأسك ، و ان ينوب عن مقامك السامي في تأدية معظم أعمالك….
أخشى ما اخشاه ، ان تتمكن الطبقة الفاسدة في البلد ، من تلقينه أصول الفساد بين كأس عرق .. و سهرة في الكازينو. !