اعداد وترجمة
خنساء العيداني
في عام 1946، وأثناء إقامته في جنوب فرنسا، أنقذ بيكاسو بومة صغيرة مصابة في أنتيب. واحتفظ بها كحيوان أليف في مرسمه لعدة سنوات، ونشأت لدى بيكاسو محبة حقيقية له. هذا التفاعل المباشر اليومي جعل البومة موضوعاً مألوفاً وحميماً بالنسبة له. جاء لقاء بيكاسو بالبومة الصغيرة خلال مرحلة انتقالية، تكاد تكون رقيقة، في حياته، في ظل ضوء الريفييرا الفرنسية الدافئ. كان قد أنهى مؤخراً علاقته المضطربة مع دورا مار، وكان على علاقة وثيقة بالرسامة الشابة فرانسواز جيلو، التي جلب وجودها قدراً من الاستقرار والتجدد بعد سنوات الحرب العاصفة والاضطرابات الشخصية. انتقل الزوجان إلى قصر غريمالدي في أنتيب، حيث كان بيكاسو يعمل بغزارة ويجرب وسائط جديدة، بما في ذلك الخزف الذي سرعان ما هيمن على جزء كبير من إنتاجه الإبداعي. أصبحت البومة رفيقة له في مرسمه ورمزًا هادئًا لليقظة، إذ عكست عيناها المستديرتان الثابتتان قدرة الفنان الفائقة على الملاحظة.
تبلورت العلاقة بين بيكاسو وفرانسواز والبومة وكانت لحظة من الخصوبة الفنية والتوازن العاطفي، وهي فترة نادرة اتسمت فيها حياة بيكاسو المنزلية والعاطفية والإبداعية بتناغم استثنائي، وبدأت صورة البومة تظهر في رسوماته ولوحاته، وفي الأسطح المرحة والملموسة لأعماله الخزفية طوال مسيرته الفنية الطويلة والحافلة، أحاط بابلو بيكاسو نفسه بالحيوانات في حياته وفنه، مُدمجًا إياها في صميم رؤيته الإبداعية. منذ طفولته المبكرة في مالقة، حيث كان والده يُربي الحمام ويرسمه، وحتى حديقة الحيوانات التي احتفظ بها في شبابه، كانت الحيوانات رفاقًا دائمين ورموزًا راسخة. حملت
الحمامة، التي أصبحت فيما بعد رمزًا عالميًا للسلام من خلال مطبوعات بيكاسو الحجرية الشهيرة، في نظره إحساسًا بالرقة والأمل. أما الثور والحصان، المستوحيان من دراما حلبة مصارعة الثيران الإسبانية، فقد جسدا القوة الخام والشجاعة والصراع الأزلي بين الحياة والموت، وهو ما تكرر في روائع مثل “غيرنيكا”. لم تظهر الكلاب والقطط والماعز مجرد صور ساحرة لحيوانات أليفة، بل كانعكاسات نابضة بالحياة للمزاج البشري وغرائزه. أما البومة، بنظرتها الثابتة، فقد أصبحت رمزًا للحكمة واليقظة، وكثيرًا ما ظهرت في أعماله الخزفية ومطبوعاته الحجرية. وفرت البومة لبيكاسو شكلًا نحتيًا متعدد الاستخدامات، يتناسب مع مختلف الوسائط الفنية. ففي الرسومات واللوحات، تُرجمت أجسامها المستديرة وخطوطها القوية وعيونها المعبرة بشكل جيد إلى أشكال مبسطة تميل إلى التكعيبية. في صناعة الخزف، يمكن استلهام الشكل المنتفخ للبومة بشكل طبيعي من شكل الإناء، مما يسمح لبيكاسو بدمج التفاصيل المرسومة مع الخطوط ثلاثية الأبعاد للشيء.
سنكون مسرورين باكتشاف قصة بومة بابلو بيكاسو، كما وردت في مذكرات فرانسواز جيلو الرائعة، “الحياة مع بيكاسو”:
“كان بابلو يحب أن يحيط نفسه بالطيور والحيوانات. وبشكل عام، لم يكن ينظر إليها بعين الريبة التي كان ينظر بها إلى أصدقائه الآخرين. وبينما كان بابلو لا يزال يعمل في متحف أنتيب، جاء إلينا ميشيل (Michel Sima) سيما ذات يوم ومعه بومة صغيرة وجدها في زاوية من المتحف. كان أحد مخالبها مصابًا. قمنا بتضميده، وشُفي تدريجيًا. اشترينا له قفصًا، وعندما عدنا إلى باريس، أحضرناه معنا ووضعناه في المطبخ مع الكناري والحمام واليمام”.



وتصف سلوك البومة قائلةً:
“كنا لطفاء جدًا معها، لكنها كانت تحدق بنا فقط. كلما دخلنا المطبخ، كانت الكناري تغرد، والحمام يهدل، واليمام يضحك، أما البومة فكانت تبقى صامتة تمامًا، أو في أحسن الأحوال، تصدر صوت شخير. كانت رائحتها كريهة، ولم تكن تأكل سوى الفئران. ولأن مشغل بابلو كان يعج بها، نصبتُ عدة مصائد. كلما أمسكتُ بفأر، كنتُ أحضره للبومة. طالما كنتُ في المطبخ، كانت تتجاهل الفأر وأنا. كانت ترى بوضوح تام في النهار، بالطبع، على الرغم من الأسطورة الشائعة عن البوم، لكنها على ما يبدو كانت تفضل البقاء منعزلة. بمجرد أن أغادر المطبخ، ولو لدقيقة واحدة فقط، كان الفأر يختفي. الأثر الوحيد المتبقي هو كرة صغيرة من الشعر كان البوم يتقيأها”.
ثم تصف صداقة بيكاسو الغريبة مع البوم:
“في كل مرة كان البوم ينفخ في وجه بابلو، كان يصرخ قائلًا: “خنزير، لعنة!”، وبعض الشتائم الأخرى، فقط ليُظهر للبوم أنه أسوأ منه أدبًا. كان
يُدخل أصابعه بين قضبان القفص، فيعضه البوم، لكن أصابع بابلو، رغم صغرها، كانت قوية، ولم يؤذه البوم. في النهاية، سمح له البوم بحك رأسه، وتدريجيًا أصبح يجلس على إصبعه بدلًا من عضه، لكنه مع ذلك، ظل يبدو تعيسًا للغاية. رسم بابلو عددًا من الرسومات واللوحات له، بالإضافة إلى العديد من المطبوعات الحجرية”.

