في مارس\آذار 1989، لم تطلق مادونا (Madonna) مجرّد أغنيةٍ، بل أطلقت ظاهرةً ثقافيّةً شاملةً. “Like a Prayer” تجاوزت كونها عملًا فنيّاً لتصبح “نصًاً أنثروبولوجيّاً صوتيّاً” مكتمل الأركان، حفر في أعماق البنى الاجتماعيّة والدّينيّة والعرقيّة في ذروة “الحروب الثّقافيّة” الأميركيّة. لقد كانت لحظةً تحوّليّةً حيث أصبح البوب وسيطاً لفلسفة التّحرر، والاستماع إليها طقساً مدنيّاً معاصراً.
البنية الموسيقية: سيمفونية التحرر الروحي
من منظور علم موسيقى الشّعوب (الإثنوموسيكولوجي (Ethnomusicology، تشكّل الأغنية رحلةً صوتيّةً متقنة البناء. تبدأ في المقام الصّغير، الذي يعكس حالة النّدم والتردّد الرّوحيّ، مصحوباً بأصوات غيتارٍ كهربائيٍّ خافتٍ يشبه التوسّل. هذا ليس اختياراً جماليّاً فحسب، بل هو تمهيدٌ لأنثروبولوجيا “الطّقس الانتقاليّ”.
مع تقدّم الأغنية، يبدأ الإيقاع الثّابت المتكرّر في الظّهور، محاكياً إيقاعات الطّقوس الشّامانيّة والأدعية الصّوفيّة. هذا الإيقاع ليس مصمّماً للرّقص فقط، بل لخلق حالةٍ من “النّشوة الحدّيّة” – تلك الحالة الأنثروبولوجيّة حيث تذوي الشّخصيّة القديمة استعداداً للولادة الجديدة.
التحوّل الأهمّ يحدث عند الانتقال إلى المقام الكبير في الكورس، مدعوماً بقوّة جوقة الإنجيل. هذا التحوّل اللّحنيّ هو تجسيدٌ صوتيٌّ لفكرة “الخلاص”، لكنّه خلاصٌ ذاتيٌّ لا يُمْنَحُ من سلطةٍ عليا، بل يُكْتَشَفُ من خلال القوّة الدّاخليّة والجماعة الدّاعمة.
الجسد الصّوتيّ.. من الهمس إلى الصّراخ
أداء مادونا الصّوتيّ نفسه يشكّل نصّاً فرعيّاً كاملاً. تبدأ بهمسٍ تأمليٍّ (“الحياة لغز… الجميع يجب أنْ يقف بمفرده”)، وهو صوت الخاضع في الصّلاة التّقليديّة. ثم يتحوّل هذا الصّوت إلى صراخٍ مكتومٍ مليء بالألم والشّوق (“أسمعك تناديني”).
الذّروة تصل عند التّحوّل إلى صوتٍ مُحَرِّرٍ مليءٍ بالثّقة في قسم الكورس. هذا المسار الصوتيّ من الخضوع إلى التّمكين هو بالضبط المسار الأنثروبولوجيّ لطقوس العبور: الانفصال، ثمّ المرحلة الحدّيّة، ثم الالتحاق بالحالة الجديدة.
الكلمات.. إعادة تشكيل لغة المقدَّس
في تحليل الخطاب، تمثّل الكلمات عمليّة “اقتحامٍ رمزيٍّ” للمفاهيم الدّينيّة. استخدام مصطلحاتٍ مثل “السّماء” و”الصّلاة” و”الخلاص” لم يكن عبثيّاً، بل كان جزءاً من استراتيجيّة “التّدنيس المقدّس” – وهي تقنيّةٌ أنثروبولوجيّةٌ لتفكيك سلطة الرّموز بإعادة تعريفها.
عبارة “أنا راكعةٌ، أريد أنْ آخذك إلى هناك” تمثّل لحظة التّحول الجوهريّة. الرّكوع – رمز الخضوع في الكاثوليكيّة – يتحوّل إلى فعل قيادةٍ وسلطةٍ. الذَّنْبُ الكاثوليكيّ، الذي كان أداة ضبطٍ اجتماعيٍّ للجسد الأنثويّ (خاصةً الجسد الأنثويّ)، يتحوّل إلى مصدرٍ للتّمكين. مادونا في الأغنية قلبت هذه الفكرة رأساً على عقبٍ، فحوّلت هذا الشعور بالذّنب من أداة قمعٍ إلى مصدرٍ للقوّة الشّخصيّة والتّحرّر.
جوقة الإنجيل.. تقاطعات العرق والطّبقة
دمج جوقة الإنجيل لم يكن مجرّد اختيارٍ موسيقيٍّ. إنّه بيانٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ. موسيقى الإنجيل – بجذورها في تراث الأفرو-أمريكيّين وتاريخهم من النّضال – تجلب معها شرعيّةً تاريخيّةً لصراع التّحرر.
عندما تعلو أصوات الجوقة الجماعيّة على صوت مادونا الفرديّ، تقدّم الأغنية رؤيةً لأنثروبولوجيا التّضامن، التّحرر الحقيقيّ لا يتحقّق فرديّاً، بل من خلال القوّة الجماعيّة. هذا الاختيار حوّل الأغنية من مجرّد بيانٍ شخصيٍّ إلى بيانٍ جماعيٍّ عن التّضامن عبر الخطوط العرقيّة والطّبقيّة.
الجدل الثّقافيّ.. الاستيلاء أم التّضامن؟
إلا أنّ هذا الدّمج أثار نقاشاً أنثروبولوجيّاً بالغ الأهمّيّة حول “الاستيلاء الثّقافيّ”. هل يحقّ لفنانةٍ بيضاء أنْ تستعير تراثاً ثقافيّاً أسود لتعزيز رسالتها؟ هذا السّؤال جعل من الأغنية منصةً لنقاشٍ أعمق عن شروط التّضامن الحقيقيّ والحدود بين التّقدير الثّقافيّ والاستغلال.
الجدل لم يكن هامشيّاً، بل كان جزءاً من قيمة الأغنية الأنثروبولوجيّة، مجبرةً المستمعين على مواجهة الأسئلة الصّعبة حول العِرْقِ والتّمثيل والسّلطة في الصّناعة الموسيقيّة.
التّأثير المجتمعيّ.. الطّقس الذي أعاد تعريف الحدود
ردود الفعل على الأغنية شكّلت ظاهرةً أنثروبولوجيّةً بحدّ ذاتها. إدانة الفاتيكان الرّسمية، وسحب شركة بيبسي لعقد الدّعاية البالغ 5 ملايين دولار، والجدل الإعلاميّ الواسع – كل هذا لم يكن مجرّد ردّ فعلٍ على أغنيةٍ، بل كان صراعاً على “تعريف الحدود الثّقافيّة”.
المؤسّسات الدّينية دافعت عن حدود المقدّس، والشّركات التّجارية خافت على حدود القبول الاجتماعيّ، والجمهور انقسم بين مؤيّدٍ لهذا التّحرر ومعارضٍ له. الأغنية أصبحت “طقساً جماعيّاً” للمجتمع ليحدّد مواقفه من القضايا المصيريّة: حرية التّعبير الفنّيّ، دور الدّين في الحياة العامة، وحقوق المرأة في التّصرف بجسدها وهويّتها.
السّياق التّاريخيّ.. صوتٌ في زمن الحروب الثّقافيّة
لا يمكن فهم الأغنية كاملةً خارج سياق أواخر الثمانينيّات. أميركا كانت في ذروة “الحروب الثّقافية” بين المحافظين (في ظلّ رئاسة رونالد ريغان) الجدد والتّقدميين. خطاب “انحطاط الفنّ” و”حرب الثّقافة” كان في أوجه.
في هذا المناخ، كانت “Like a Prayer” تدخّلاً مباشراً في المعركة. لم تكن مجرّد أغنية عن التّحرر الشّخصيّ، بل كانت سلاحاً في حرب التّمثيل والهويّة. كانت إجابةً فنيّةً على محاولات تقييد الحرّيّات الفنيّة وتقييد الخطاب حول الجنسانيّة تحت شعارات “القيم العائليّة”.
الخاتمة.. تراثٌ دائمٌ وتأثيرٌ متجدّدٌ
بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ، لا تزال “Like a Prayer” نموذجاً لكيفيّة تحويل الموسيقى الشّعبيّة إلى قوةٍ أنثروبولوجيّةٍ فاعلةٍ. لقد نجحت في تحويل الاستماع من نشاطٍ ترفيهيٍّ إلى “تجربةٍ طقسيّةٍ”، حيث يصبح المستمع مشاركاً في عمليّة تحوّلٍ رمزيٍّ.
الأغنية لم تعد مجرّد تراثٍ موسيقيٍّ، بل أصبحت “وثيقةً ثقافيّةً” تدرس كيف يمكن للفنّ أنْ يهزّ البنى الاجتماعيّة، ويعيد تعريف المفاهيم الدّينيّة، ويخلق مساحاتٍ جديدةٍ للخطاب حول العرق والجندر والسّلطة.
في النّهاية، “Like a Prayer” تثبت أنّ أعظم تأثيرٍ للفن لا يأتي من جماله فقط، بل من قدرته على أنْ يكون “مرآة المجتمع” التي لا تعكس واقعه فحسب، بل تدعوه لمواجهة ذاته وإعادة اختراعها. لقد كانت، ولا تزال، صلاةً مدنيّةً لعصرٍ حديثٍ، حيث لم يعد الخلاص يُطْلَبُ في الكنائس، بل يُصْنَعُ في ورشة الذّات والجماعة، عبر لحنٍ يبدأ بصوتٍ فرديٍّ همساً، وينتهي بأصواتٍ جماعيّةٍ تعلن تحرّرها.

الدكتور سعيد عيسى