عزة كامل المقهور قاصة/ ليبيا
(1) الوصول
قبل أن تحط بي الطائرة على مدرج مطار رفيق الحريري، رأيت المتوسط يمتد بلجة داكنة على غير عادته، فالليل يفرض نفسه وينتصر على كل الألوان. باقترابنا من الساحل، كانت بيروت مضيئة، وهنا تساءلت أين انقطاع الكهرباء ؟ وفرحت أن الضوء في بيروت لم يأفل، وإنها ماتزال تشع
نال الاعياء مني، لكن ما أن خرجت إلى ساحة المطار حتى احسست بطرابلس .. دفء الجو وتشبعه برطوبة البحر. لا أدري تحديدا وجه الشبه، لكن تفاصيل كثيرة اثارت في شعورا بالانتماء لهذه البقعة
كم تتشابه مدن الضفة الجنوبية للمتوسط
(2) شارع الحمراء
اتجهت راجلة نحو شارع الحمراء، لم أكن أدري أن البحر قريبا مني أيضا. كنت بحاجة أن أرى الناس، وجوههم وانطباعاتهم وحركة السير و” العجقة” والأطفال والمباني
جيلي -كما أجيال قبلي – قرأ عن الحمراء ومقاهيها، وقصر/ مسرح البيكاديلي، وصحفيي العصر الذهبي، والنقاش السياسي، والحوار والخلاف العربي. كانت لبنان ملتقى العرب من مشارب عدة، عندها يلتقون ضمن متناقضاتها ويتحاورون ضمن تلك المتناقضات ايضا
قال لي عمي خليل بواب الفندق بصوت مبحوح وقد شرحه الدخان المتسرب من حنجرته جيئة وذهابا.. ” اذهبي على طول هذا الطريق، حتى تقابلك عمارة زجاجية بزاوية حادة، خذي الطريق على اليسار من آخرها.. ستجدي شارعا منحدرا ورصيفا مبلطا انزلي منه، سيقطع هذا الشارع شارع الحمراء”.. كان يحاول بيديه أن يسهل الصورة التي يشرحها بصوته
لا أدري كيف اتجه الحديث نحو أولاده.. قال لي ” نحن نربيهم كي يغادروا.. ثلاثتهم بتركيا يدرسون، ولدان وبنت”
غادرته وأنا أحمل همه من اليوم الأول الذي وصلت فيه بيروت.. ” نربي أولادنا كي يغادرون”
يشبه الرصيف أرصفة بلادنا بعدم تناسقها إرتفاعها وانخفاضها، ضيقها واتساعها، حفرها وجداول الاشجار البائسة المهملة. في بيروت كما في طرابلس الأولوية للسيارات، عليك أن تقود سيارة كي يمكن رؤيتك، والتعامل معك. أما المترجلين فعليهم أن يقتنصوا الفرصة المناسبة للعبور
استمتعت بممارسة خبرتي في السير على أرصفة “الظهرة” وعبور الطرق والطرقات، ومزاحمة السيارات التي تحتل الأرصفة، حتى لا يكون لك من خيار سوى السير على الأسفلت بطريقة معاكسة كي تكون ظاهرا. استخدمتها ببراعة، كنت اخشى أن تصدمني سيارة وأنا فرحة لإطلاق سراح قدمي في شوارع بيروت، شعرت بنوع من الاعتياد والراحة باستعمال طرقي الخاصة في التعامل مع السيارات الغاضبة والمستعجلة والهائمة والمتعالية والمتواضعة والبائسة والمتعدية والمحافظة. استخدمت يدي بأدب عند طلب التوقف لحين مروري.. غالبا ما استجيب إليها بابتسامة
الجو صيفي رغم فصل الشتاء، و على طول الطريق نحو وجهتي رأيت وجوها قلقة وضجرة، وقليلة تلك المبتسمة، كما التقط سمعي بعضا من الشكوى والاستغفار على ما آل إليه الحال
“هذه الحمراء ياستي”
قالها كهل يحرك يديه ويحمل على كتفيه هموما مرئية
“شكرا”
وهل هذه الحمراء التي سمعت عنها؟
بلى، كان الشارع هادئا حد الضجر، شبيها بالشوارع التي اوصلتني إليه. تعرض دكاكينه بضائع عمومية كالحقائب واجهزة الالكترونات وبعض البوتيكات ودكاكين الحلاقة
سرعان ماعدت أدراجي وتسلقت الأرصفة وداعبت بعض الاطفال الذين يلمعون من النظافة ويتحلون بالاناقة
“هل انت من دار فخر الدين” سألني أحد الباعة
أجبته وأنا اهز رأسي بالنفي مبتسمة، “بل من دار الطرابلسي”
وأنا اقترب من فندقي، شاهدت المدرسة الفرنسية تطلق العنان للجرس، والتلاميذ يخرجون من بابها الرئيسي، يحملون حقائب ثقيلة، بينما خطواتهم الخفيفة تنم عن فرح وحماس، ينظرون بعيون ملؤها المستقبل، يتجرعون الدروس ويتحدثون لغات ثلاث بطلاقة، تكاد الدماء تنفر من خدودهم الحمراء التي تكسو دوائرها بشرة بيضاء صافية، وشعر كستنائي مموج
يودعون بعضهم للقاء في الغد، ويتمنون بلاشك ألا يأتي ذلك اليوم الذي يتوجب عليهم فيه وداع أهلهم إلى بقاع أخرى
دخلت بينهم أحاول كما حاولت مع السيارات أن أجد شريطا للمرور، رأيت في عيون بعضهم سؤالا صامتا فيما إذا كنت أم لأحدهم
هكذا انصهرت مع المارة وكأنني منهم وأنا بينهم
(3)الجولة
اخذتني صديقتي الفيس بوكية في جولة.. كان البحر قريبا جدا. قالت لي بدفء حين صرخت وأنا أرى الساحل، أعلم إنكم معشر الليبيين تحبون البحر ، لذا سنذهب إلى المرفأ
استغربت.. ولم أقل شيئا، سمعت عن المرفأ ما آلم قلبي وأنا أرى هبوب الموجة الحارقة على كل بيروت، والانفجار ثم الضحايا، والزجاج المحطم على الأرض والمغروس في الوجوه والأبدان
“موظف مع زوجي اصيبت زوجته واصبحت معاقة ذهنيا بالكامل بعد أن وقع على رأسها حجر بناء”
يا إلهي كيف ننسى كل هذا
كان انفجار المرفأ بمثابة رصاصة انغرست بالقرب من قلب ما يزال ينبض
المرفأ .. كيف سنذهب إلى المرفأ ؟ هل لرؤية آثار الانفجار
ركنت صديقتي ببراعة السيارة ونزلنا إلى المرفأ، فإذا به مارينا جميلة لمطاعم متراصة تحاذي ممشى خشبي على الماء، وتواجه يخوتا باهظة بحلة حديثة كأنها تتأهب للرقص. لم اصدق لوهلة.. رفعت رأسي فوجدت عمارات عالية ذات واجهات زجاجية أنيقة، صحيح أن أغلب شققها مهجورة على ما يبدو من الظلام الذي يغلفها- لكنها تقف بقمة أناقتها خاصة مداخلها
يا إلهي ما كل هذه التناقضات؟
دعتني صديقتي للعشاء على ضفاف المتوسط و”هدرزنا”، قرأت لصديقتي الأديبة اجزاء من قصصي، وحكت لي عن شخوص رواياتها وقصصهم، وأمتد الحديث عن أولادنا وأحوالنا وبلدينا… كانت الأطباق اللذيذة تحضر وتغيب حتى انطفأت بيروت..هكذا بكل بساطة.. اظلمت! تحركت السيارة وهي تتلمس الطريق في غياب للإنارة وتعطيل أضواء اشارات المرور، ووسط مركبات الدليفري والدراجات والمارة.. كدت اصرخ وأنا أرى كل ذلك فيما صديقتي تقود ببراعة وسط كل هذا
ثم اصرت على أن “نحلي” معا ، أبت صديقتي إلا أن تكرمني ببعض الحلويات اللبنانية، توجهت بي إلى محل مضيء وطلبت لي كنافة بالجبن وأنواع أخرى، تناولناها على مقعدين على الرصيف فيما أسر تجلس من حولنا وتتناول مالذ وطاب.. وحين هممنا بالرحيل، وقعت عيناي على ثمار الجوافة المتراصة في شكل هرم، وتذكرت مطارح ببلادي حين أخذتني الرائحة العبقة
طلبت لي جوافتين، فأهداهما لي صاحب المحل.. تركتهما في غرفتي تفوحان طوال الليل وسرحت إلى هناك حيث ذات البحر وذات الظروف الصعبة وتمنيت لبلدينا الغنيين بخيراتهم أن ينهضان ذات يوم من كوابيسهم ويتحرران من خيوط المصالح الذاتية
وكما قادت صديقتي سيارتها في شوارع معتمة، وآخرون دراجاتهم، وكما عبر المشاة و الحمّالون ببضائعهم، وكما تتزين دكاكين البقالة بالخضار والفاكهة في لوحات ملونة و طازجة، وكما تلك الأم التي تحرص على تعليم أولادها وانتظارهم بصبر في زحمة خروج الموظفين وتلاميذ المدارس، هو لبنان يسير رغم المحن دون وجهة محددة، لكنه يسير بقلب رضي وحب لأرضه التي وجدت لتكون رغم كل التناقضات
ديسمبر 2022