لونا قصير
24/05/2022
“زادُ الخرّيجينَ”
“شاءَ اللهُ أن يتكوّنا في ظُلمةِ الرّحمِ، وجمعهُما جُرنُ المعمودية، وبدآ معًا المْشوار إلى فجرِ النّور في حُضنِ بيتٍ يحيا بشركةٍ مع الجماعةِ الكنسيّة، وتشغِلُه شوؤنُها، ولم يفصلْ بينهمُا إلاّ الموت”
. استعنتُ بهذه الكلمات من كتابِ صفحاتِ أنطاكيّة، المُهداة إلى شقيقِه الأستاذ نديم حيدر رحِمَه الله، للتأكيدِ أن هذه التوأمةُ البيولوجيةُ التي جمعَتُهما، لم تكن يتيمةً في مسارِ حياتِه، فكلُ مهمةٍ أوكلَتْ إليه، هي بمثابةِ توأمِهِ الآخر، وارتبط اسمُه ارتباطًا وثيقًا ومتينًا بها. في كل مهامِهِ يضعُ فيها من نفسِه وروحِه، لإتمامها على أكمل وجه، هو ابن الكنيسة، المؤمن بالرسالة الإلهية، ألا وهي المحبة والسلام
أستاذ شفيق حيدر، مقتنعٌ ومؤمنٌ .”أن الله منَّ عليه أن يستمرَ في التحدّثِ عن أنطاكيّة ومجدِها وتاريخِها من أجلِ أرضٍ يسودُها العدلُ والسلامُ”، فالتحقَ بالحركة الأرثودكسية، وطرحَ مواضيعَ عديدةً وجريئةً، لا تتعارضُ مع مبادئ الكنيسة، بل تسلطُ الضوءَ على ممارساتٍ مستهجنةٍ لا تمتّْ إلى خيرِ الكنيسة ورعاياهَا بصلة.
رجلُ المُهِمّات، حملَ مسؤولياتٍ عديدةً وشاقةً في الوقتِ ذاتِه، فهو عمِلَ في الثانوية الوطنية الأرثودكسية كمنسّقٍ للغةِ العربية، ودرّسَ فيها اللغةَ والفلسفةَ الإسلامية العربية، قبل أن يستلمَ منصبَ مدير.. أدارَ هذه المؤسسة بكلِ شغفٍ ومحبة لعقودٍ طويلة، فطوّرَ البرامجَ التربوية، وحسّنَ آدائِها، وبرزَ دورُ الكنيسة التربويّ في خدمةِ أهلِ المدينة، وحمىَ المعلمَ ومهنةَ التّعليم عامةً، وجاهدَ من أجلِ الحِفاظ على حُريتِها خاصةً في الحقباتْ الصعبة، مُتحدِيًا كلَ العوائقِ، فهدفُه الأساسُ نشرُ العلم والمعرِفة، لأنه على يقين أن جميعَ الحضاراتِ المختلفةِ التي تعاقبتْ على مَرِِّ التّاريخ، كان العِلمُ هو السِلاحَ الأقوى الذي يُمكنُ للبشريةِ أن تتزوّدَ بها
في بدايةِ الحربِ الأهلية، حضنَ أستاذ شفيق كل من يرغبْ بمتابعةِ علمِه بعيدًا عن الفوضى والحرب التي كانت تستشري في الوطن، ولم يسلْ عن طائفة أيِّ تلميذٍ أو دينِه أو عرقِه، فما أن تدخُلَ إلى هذه المؤسسةِ العريقةِ حتى تنسىَ ما الذي يجري في الخارجَ
سرعانَ ما ذاعَ صيتُها لحُسنِ إدارتِها ومهارةِ أساتِذتِها، وبدأ الأهالي يتوافدون من جميعِ المناطقِ لتسجيلِ أبنائِهم، فأصبحت مدرسة مار الياس لؤلؤةَ مدينةِ الميناء، فهي الصورةُ لوجهِ لبنانَ الحقيقي، الذي نريُده، لبنانْ العيشُ المُشْتَرَك والانفتاح والتنوّع
لقد أثمرتْ جهودْ أستاذ شفيق، وتخرّجَ على مدى عقودٍ من مدرسة مار الياس أفواجٌ عديدةٌ، ومع كل تخرّجِ كان يُطلقُ بفرحٍ وسعادةٍ أفواجًا جديدةً من عصافيرِ الحياةِ إلى الحرية، مطمئنَ البالْ، لأنهم مُحصّنونْ بالعلمِ والمعرفة، ليُكمِلوا مسيرتَهم بعزمٍ وثقةْ في رحابِ هذه الحياةِ الواسعة
هذا المساء، يضعُ أُستاذنُا بين يديّنَا مولودَه التاسعْ، فهو لا يقلُ ابداعًا عن مؤلفاتِه السابقةْ. استنتجتُ من خلالِ قراءتي المتواضعة أن المبادئَ التي تعلمنَاها منه منذُ عقودٍ مديدة، ثابتة ومتأصلة في جذوره، فرُغْمَ كلِ الصعوباتِ التي واجهها خلالَ مسيرتِه الإبداعية، سَواءَ كانت خاصة أو عامة، لم تستطع أن تزعزعَ من عزيمته، “إيمانا منه بأن مستقبلَ لبنانْ في أيدي المُربّينَ الّذين يُسهمونَ في إعدادِ الإنسان المنقذ” ، وهو لا يزالُ حتى يومِنا يعمل بلا كللٍ ورُغمَ كلِ المآسي والويلاتْ التي نشهدُها ونعيشُها
زادُ الخريجينَ هو كتابٌ لتشييدِ الوعي باسلوبٍ ممتعٍِ وواضحٍٍ، يتضمنُ قِيّمًا تنوّرُ دروبَ شبابِنا، قبلَ ابحارِهم في رحلةِ الحياة
هو الزادُ المعجونُ بخبزِ الحريةْ، والفكرِ والعلمِ، وتاريخٌ مليءٌ بالعمل، والخُبُراتْ والحكمةْ، جمعَها في كتاب ليُنيرَ طريقَ شبابِنا فهُمُ الرجاءُ بالصبحِ الآتي؛ والغدُ والمستقبلْ
لم يغفلْ أستاذ شفيق عن أمرٍ إلا وذكرَه بكلِ صدقٍ وشفافية، فجاء الزادُ كاملاً متكاملاً كتابةً ومضمونًا، فالويلُ لكل بحارٍ يبحرُ على سفينةٍ دونَ شِراعٍ يحميه من عواصفِ الرياح العاتية، وهنيئًا لكلِ من وجدَ نفسَه بين سطورهِ فهو ارتقى إلى المعنىَ الحقيقي لكلمةِ إنسان، التي تُجسّدُ مغزىَ الوجودِ من أجلِ العبورْ إلى دُنيا الحقْ بسلام
هنيئا لك ولنا هذا الكتاب المُشوّق، ودمتَ لنا الشُعلة المضيئة التي لا تنطفئُ طالما نحن على قيد الكتابة