اخلاص فرنسيس
لسنا قصّة عابرة
وأنا أتهيّأ للنوم يطالعني صوت البيانو من خلف النافذة، فتنبت في داخلي أجنحة الحنين، يمسك بيدي، يسير بي إلى القلم والورقة لأكتب لك، الموسيقا تؤلّف سلّمها كلمات من حب، تقاسيم من أشواق، وكأنّها نهاوند، منفردة، متفرّدة على عود الحزن واللهفة. هل أقول لك: مساء الخير وأنت في طريق الشمس تسير؟ الآن وأنا في هذه الغربة المكهربة، تمسّ أطرافي الجنون، كلّ الكائنات أوت إلى مخادعها، أستعدّ للخلود إلى هذا الليل البارد الطويل، محتلّة بالتوق، ومسكونة بالوجع، أقول: أحبّك أو لا أحبّك، عواصف وصرخات وتناقضات تمتدّ على طول دفتري وعرضه، بذور منثورة من توهّج دمعة ناي، أفتح درج مكتبي، أرفع إلى شفتي قارورة العطر التي أهديتني، أقبّلها، الموسيقا ما زالت تعزف، والحنين يغمس ريشته في دمي، يسري في وريدي دمك، مرمية ومشلوحة بين الجدران العارية، أعضّ على جرحي، وخارجها أسوار المسافة تحول بيني وبينك ، كلماتك ترنّ في أذني، ويدي ترتجف كالعصفور في يدك
الضباب يخفي دمعتي، أسير نحو الغياب بخطى وئيدة، وفي خضمّ يأسي أتفقّد صدري، جسدي بين مطرقة القلب وسندان العقل، أوراقي تعبّ الدمع كلما زارها طيفك. من يطلق الرصاصة الأخيرة، وينقذني من ضياعي. نظراتك ترجوني أن أبقى قليلا. من يمسح آثار الزمن عن وجهي، ويرتق الشرخ المغبر بالشيب؟
نار وريح وبشر، وكما في كلّ مساء، أصير للوقت تسلية، يبني لجسدي زورقاً من مئات الرسائل، وكفناً من الحروف، أمام ناظري تصطفّ كالنخل شامخة، أكاد أمدّ يدي لأصافحك ، علّها تسقط من كتبنا المسافة، أو أخرج من هذا التمثال الرخامي، لأعود إلى سجن ذاكرتي التي تدوّن في مفكّرتها يومياتي في منفاك، ترسم هزيمتي وصدى الأنين في همهمات مبهمة، مطعّمة بالصمت العتيق، والبكاء الطويل. هرمت جدائلي، والحنين ازداد مرارة، أحاول أن أقرّب الغد، لأنجو، فالعذاب شيطان أخرس، يفترسني بأنيابه. كلّ شيء حدث مثل ومض البرق، وكأنّنا لم نلتقِ، حلقات مفكّكة بدا المصير، والتفسير الوحيد أن أؤمن بالوجود، وأن ألهث خلف حدسي. يقودني ساعي البريد إلى كوكب آخر، في كلّ مرة يفتح جعبته على باب غير بابي، يفتح جرحي، يشحذ السكين، كلما قلت اقترب الأمل، ازددت بعداً، أرقبه يبتعد، ألعنه كيف غفل عن بابي، ربما أخطأ في كتابة العنوان. أدير قرص الراديو، أبحث عن أغنيات هشّة، لأتحرّر من الإحساس بالفشل، ألملم مسوّدات الرسائل المبعثرة، أملأ كأسي، وأجلس معها نتسامر، تنام على الطاولة، وبين الذكريات الغابرة والكلمات، ألتصق بها، تصرفني فارغة، تسلب منّي القدرة على الرؤيا، أنفض عنّي الموت
حبيبي.. لسنا قصّة عابرة.