الغــــلاف..
بــوابـــة للقــــراءة
إن الاشتغال من خلال اللغة هو إحدى نعم الكتابة النقدية التشكيلية ومآسيها في الوقت ذاته، وهو أمر يتلمسه النقاد المهتمون بالفن التشكيلي وبالشعر معا، فقد أكد الناقد التشكيلي سهيل سامي نادر مرة “أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى.. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، ولا سيما لغته كلها، وطريقته في الحكم”. ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة، مثل آلاف قبلنا، بمحاولات في كتابة الشعر، وقراءته، باعتباره حاضنة أولية للثقافة، فقد وجدنا في أنفسنا هوى لقراءة الشعر، وقراءة النقد الذي ينشر عنه، ودراسة آليات ذلك النقد، إلا أن الصلة الوثيقة التي تربطنا بالرسم ونقد الرسم جعلتنا نبحث، معظم الوقت، في تخوم، العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم انهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر أننا نتلمس وشائجهما قوية بشكل محسوس، وهذه هي وجهة نظرنا التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها، وهو ما يجعلنا، وما زلنا نحاول التعامل مع الجوانب البصرية للقصيدة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية.
إن أهم التزاماتنا التي نحرص على الوفاء لها، هي أن لا نقسر النص أو نقوّله ليتسع لرؤانا المسبقة بل نترك للنص حرية أن يقودنا الى حيث شاء (أي البحث عما يمكن أن يقوله مما هو غير متاح على سطحه ومما لا تعطيه أبنيته اللفظية للقراءة الأولى رغم وجوده ضمن جوهره المتخفي وراء ظاهره) كما يقول الناقد الدكتور حاتم الصكر، وبذلك نحن نمتثل لما يبثه النص باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا، فتكمن مركزية القراءة في النصوص، التي هي تعبير لا يقتصر على (المدونة) اللغوية، فأن (نص كتاب) ديوان نار القطرب يتشكل، برأينا من : صورة الغلاف ولونه، و العنوان، وعناوين القصائد ونصوصها، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش.
وان كان نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان، باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدأ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم، ونحن نزعم إننا اكثر معرفة بأهمية الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة، بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من اقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، ومنها مجموعة من التماثيل الكلسية بحالة غير جيدة، وقد وصلت إلينا من الوركاء، ولم تلاق في حينه أي اهتمام لكونها مهشمة، فاعتبرت فرثية خطأ بسبب الموقع الذي وجدت فيه لذا فقد استبعدت من تاريخ الفن التشكيلي السومري، وان واحدا منها يمكن تمييزه _ على الرغم من حالته المحطمة – كرجل ذي لحية كثة غريبة على شكل قرص تغطي ذقنه وخديه، وهو يعود الى عصر فجر التاريخ في بلاد سومر، وان حال شعر الرأس واللحية يوحي بأنه شعر أمير، لأن الإكليل السميك هو لباس الرأس لدى الأمراء في عصري الطبقة الرابعة في الوركاء وجمدة نصر. وقد اعتبره الدكتور فوزي رشيد تمثالا للإله تموز في مقال له في مجلة (الرواق) التي كانت مهتمة بالفن والنقد التشكيليين، وهو النموذج الذي كان شكل مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
نحن نعتقد أن الشاعر حسين عبد اللطيف قد بث في ثنايا نصه (ديوان نار القطرب) شظايا من المناحات التي يطلقها الشاعر بكاء على تموز (=الشاعر ذاته)، وبذلك يتحول هذا الديوان الى ما يشبه المراثي الذاتية مبثوثة في عُقَد من الديوان، منها الهامش الأهم الذي وضعه الشاعر لقصيدته (عيد البوقات) في نهاية الديوان، ويقول فيه : “يرى السير جيمس فريزر، صاحب (الغصن الذهبي) إن تموز يمثل حياة النبات ورمزه هو القمح. ويستدل على ذلك بنص او مقتطف يأخذه عن كاتب عربي من القرن العاشر – دون تسمية الكاتب او المصدر – يصف فيه الطقوس التي كان أهل (حران) يمارسونها في شهر تموز.. لألههم (تاوز).. والكاتب العربي هو ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) الذي يقتبس منه (فريزر) هذا النص: في النصف الأول منه عيد البوقات – يعني النساء الباكيات – وهو عيد يعمل (لتاوز) أو (تاعوز) الإله.. وتبكي فيه النساء عليه، كيف قتله ربه وطحن عظامه في (الرحى) ثم ذرها في الرياح، والنساء اللواتي يندبنه في هذا العيد لا يأكلن شيئا طحن في رحى بل حنطة منقوعة وحمصا وتمرا أو زبيبا وما أشبه). وكلمة (البوقات) أما محرفة عن (بكاة) جمع باك، أو أنها تعني الآلات الموسيقية التي ربما كانت تصاحب النادبات في مثل هذه الطقوس. وهي جمع ما لا يعقل قيس على ما سمع عن العرب كحمامات وسرادقات وسجلات و أجازه ابن جني في (المحتسب 2/153) وابن عصفور في (شرح الجمل 1/149). ومن عاب جمعه بالألف والتاء لأنه اسم جنس مذكر، الحريري في (درة الغواص ج 1) مشيرا الى بيت المتنبي :
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقات لها وطبول
وتنظر قصيدتي السياب (أم البروم) و (ها.. ها.. هوه).. “.
إن ما تسميه هناء مال الله (الوحدات الصغرى) التي يبني الرسام لوحته منها وهي تسميها (العناصر التكوينية للوحة) نجدها عند حسين عبد اللطيف مستمدة من مناحات تموز: الحنطة والريح وحبال القنب والكثبان والنار والأفعى بتنويعاتها المختلفة. فقد استعارها حسين عبد اللطيف، في قصيدته المهمة (في عيد البوقات)، كما استعرت في رسمي لصورة الغلاف هيئة تلك الدمى موثقة الأيدي بالحبال :
(قدماي مفلطحتان وفمي أعجف/ويداي، يداي /بحبال القنب موثقتان /آدم /ذا وسط عراء منبوذْ /غربانٌ / وملائكة سودْ / تتضاحك / وتعابث / أعضاءه”
(في عيد البوقات)
وآدم قد تعني هنا (ابن آدم) وهو يقصد به الشاعر ذاته (=الإله تموز) الموثق بالحبال وهو الشاعر ذاته الذي أوثقت حبال الحياة أيديه (=مصيره)، وهي تقتاده الى حيث لا يشاء. أي أنه ذاته التمثال موثق اليدين (=تموز).
“وقلتُ : أأنتِ ! / فحلي إذن / من وثاقي” (وثاق)
انه يبني قصيدته هذه (في عيد البوقات) من ثلاثة مقاطع، حيث تمتثل للبناء الكلاسيكي (البداية – الوسط – النهاية)، حيث تهيمن على المقطع الأوسط لفظة (المخلب) وزمجرة النمر، فأي عالم متوحش قد القي فيه الشاعر. بينما يأتي المقطع الأخير (النهاية) وهو (خلاصة الحكمة) في القصيدة، حيث يتماهى الشاعر تماما في مناحة تموز :
“لم آكل (خرشنة) / أو قمحا مبلولا / ما رجّلتُ الشَعْرَ بزيت / ما خبأتُ دموعي / في خابيةٍ / في قبو البيت / بل.. في (عيد البوقات) بكيتْ”
وهو يؤكد على شكل مصيره الذي وصّفه في المقطع الأول الذي ذكرنا:
“وأنا مركوز في نقطة / يتجمهر حولي الناس / لم يأتَِ القافزُ / فوق الظلّ / ولم يعرفْ وجهي الحراسْ”
(أناشيد الاوبانشياد سفينا سيفاترا)
وبذلك فهو يزيح لسان النص ليفرض هيمنته على لسان الخطاب، رغم المصير المحزن الذي يصوره.
إن أهم اللقى التي يؤكد حسين عبد اللطيف فقدانها من (يديه) هي الحنطة، وهي رمز من رموز تموز:
“لا تظلموا الحبّة / في ذمة الكثبان” (أدراج الرياح)
“وها أنا / ها أنا / لا حنطة / في يدي / ولا / على / شكواي / عندي شهود”
(لا حنطة في يدي – عندليب الأسى)
“يضن بي الطير حبة قمح”
(الدريئة)
“اضربْ / بعصاك.. / فيافي الأرض / لتجدْ / في حبة حنطة / او حبة رملٍ / مدفونا / قلبي”
(قلبي من ذهب إبريز)
وفي قصيدته (ودائع)، التي درستها سابقا بصورة مستقلة، وهي خطاب موجه الى امرأة هي (خ)، التي ثبت لها إهداء القصيدة في ديوانه القادم (لم يعد يجدي النظر)، وهي عنده عشتار التي تسببت في نزول تموز رهينة في العالم الآخر. ويتتبع حسين عبد اللطيف الأسطورة منذ البذار “احملي قمحنا وانثريه.. في وهاد القرى”، وهو تحقق الموت الأول للبذرة، “هدهد ميت / في الخزانة بين الثياب / وردةٌ.. وتصاوير مغبرةٌ و.. لقى”، وكلها تعاني الموت مادامت في خزانة، ثم يأتي النماء المعمد بالتضحية “ودمي قطرات”، ومن خلال المطر والحياة الجديدة “فارسلي المطرا / علنا نمنح الشجرا / لونه الأخضرا / وننال الثمار”، التي ستعاود الموت، ثم الحياة وهكذا.
يدعو الشاعر الناس الى التجمهر حوله ليريهم ما عنده، ربما هي (نار القطرب) ذاتها التي أتخذها عنوانا للقيته الأهم (النار) :
“اقبلوا / اقبلوا / فالنهار انتصفْ / اقبلوا / اقبلوا”
(سوق)
انه حسين عبد اللطيف، الشاعر – الإنسان الذي ما زال يشعر بآثام آدم متسربة إليه عبر:
“حقيقة عارية / أم أنها : أفعى / جائية.. تسعى / إلي بالتفاح!”
(قناع)
انه يبحث عن مخرج له من هذه المحنة الوجودية :
“في قبضة العزلة / ابحث عن مصباح / ابحث عن مفتاح”
(قناع)
لكنه أيضا يمارس فعلا ماسوشيا مناقضا له حين يلف حباله كالشرنقة لينبه نفسه التي تختلق الأعذار دائما:
“ألف حبلا وحبلْ / القي على الغارب / أقول : يا نفسي / أخيفها من سطوة الإبريق والكرسي / إياك.. يا نفسي / إياك أن تجلسي.. يا نفسي / أراه مثقوبا هو الكرسي / لكنها.. نفسي جريا على عادتها.. تعزو / رداءة الحال الى الطقس!”
(قناع)
وتبقى الخطيئة، دائما، تلاحق حسين عبد اللطيف لتخرجه من جنة الشعر الى جحيم هذه الحياة :
“كانت ها هنا أفعى / وكان القمح / مطحونا / وتلك النار في التنور / كانت / لا تني / تهذي / هي الأخرى”
(فالس آخر السهرة)