فى مراحل العمل الصحفي الأولى، كنا فى الصحيفة اليومية مشغولين بأحداث السياسة وتقلباتها أكثر من الجوانب الأخرى. وأتذكر وأنا سكرتير التحرير لصحيفة الجمهورية اليومية في اليمن، أن تطوير العمل اليومي نهاية الثمانينيات تطلب الانتقال إلى الصف الإلكتروني والدخول في عالم الكمبيوتر، وتغيير الشكل وزيادة بعدد الصفحات، وكان من ضمن الإضافات صفحة خاصة بالمنوعات، فيها أخبار ظريفة ومعلومات سريعة عن أي شيء، ابتداء من تربية الزواحف وانتهاء بالفلك، المهم استراحة تروح قليلا عن القارئ. وأضيف إليها ضمن السائد آنذاك، بطبيعة الحال كما تعمل كبريات الصحافة العربية في القاهرة أو بيروت، كلمات متقاطعة وزاوية للأبراج وحظك اليوم !.
بَدَأ الأمر طريفا في البداية، ولكن غَدا لي بعد ذلك ملاحقة يومية مرهقة، تتابع المحررين الذين لا يفون بالمادة السريعة الطريفة في وقتها، وكسكرتير للتحرير عليه أن ينهي فى آخر الليل إخراج الصفحات مع الفنيين، ودوما كان العجز فى غياب محرر زاوية الأبراج وحظك اليوم.
وكان زميل القسم الرياضي يسد فراغ تأليف الكلمات المتقاطعة بمهارة، لحبه ذلك الفن لا أكثر، ويبقى سؤال رئيس التحرير عن حظك اليوم، فأرد عليه ( حظنا هباب). غابت الزميلات وتبخر الزملاء ولا شيء غير الفراغ فيكون الرد: (تصرفوا بسرعة). وهنا يكون الأرشيف هو المنقذ، وذاك قسم كان يتبع إدارتي، لدينا أرشيف جيد بالمؤسسة فيه كل تقلبات الزمان، ومعظم صحف المنطقة العربية بمجلدات متقنة، وكان الحل أن أغوص في أعداد من صحف ومجلات قديمة وأعيد ترتيب محتوى زاوية حظك اليوم، وبصيغ مبهمة تؤدي إلى النهايات المفتوحة والاحتمالات المختلفة، والسماح للقارئ أن يفسرها حسب هواه ونفسيته.
نقول لبرج الجدي أمامك مفاجأة غير متوقعة ونصمت، ولبرج الدلو طالعك اليوم ممتاز مع بعض التحولات، وبرج السرطان نقول له يبقى الانتظار في صالحك. ويا صاحبة الجوزاء رفقا ببرج الحمل ! .
لا نخرج عن تلك العبارات التي لا توصلك إلى طريق!.مثل لجان الحكومة.
وفي معظم اللقاءات مع الشخصيات المهمة، يكون سؤالهم عن هذه الصفحة التى كنا نراها في طاقم التحرير مجرد سد فراغ، نتخلص منها مع توافر أي إعلانات تجارية، ونحافظ على صفحات الأخبار والتحليل، وقال لنا شخص ذو أهمية:
نحن نقرأ الصحيفة من صفحتها الأخيرة، حيث مقالات حرة وصفحة المنوعات الخفيفة، الباقي لا نراه إلا إذا حدث خطأ مطبعي فيه !. ليتم التحقيق بالخطأ.
وبقى السؤال عن محرر الأبراج وطلب خدمة منه، واستغربت أي خدمة من زاوية لا معنى لها!.
فكان الرد: يا ريت تكون أخبار بعض الأبراج إيجابية، تحث فى اتجاه حب لبرج معين، لأن صاحبنا وبعض المهمين مؤمنون بالأبراج، خاصة أن معظم ما كان ينشر بزاوية الأبراج حسب قوله يتحقق بشكل مخيف، ويسأل كيف يعرف المحرر ذلك ومن أين نأتي بالتفاصيل، فكنت أرد من (السرداب)، حيث كنا نسمي الأرشيف بالسرداب يومها.
وزاد يقين بعض المهمين بقراءة محرر الأبراج، ووصل الأمر بمسئول مالي كبير يعاني من وسواس أنه لا يخرج من منزله إذا قرأ فى برجه أنه سيجد مشكلة!. ولا أنسى كيف بقي بعض الزملاء يطلبون أن نعكر مزاجه مرتين أسبوعيا فى نشر تفاصيل ببرجه بما يوحي أنه سيجد مصيبة أو سيمرض إذا لم يف بوعده!.
واتصل صديق ذات مرة يستنجد لأن خطيبته طلبت إنهاء الخطوبة لأن طالعها لا يتوافق مع برجه حسب زاويتنا الجميلة، وبقي في حالة هياج حتى غيرنا له طالعها، ورضت عنه وتزوجا وعاش عشرين سنة معها بعد ذلك في نكد لا يتوقف، حتى جاءت الحرب وأنقذته.
وكان من يسألني وأنت من أي برج أرد عليه من برج التحرير، أطول عمارة فى المدينة وقتها، وفيها مقهى يجمع شلة الدراسة لا أكثر! .
ولكني استفدت بعد ربع قرن من تحرير تلك العبارات الغامضة فى كل موقف سياسي ودبلوماسي، لا تستطيع أن تقول فيه معلومة أو تحدد موقفا، فتجد نفسك مثل محرر (برجك هذا الأسبوع).
تقول إن الأمور تحتاج إلى رؤية، وأنه ستبقى الأمور ممكنة ومنفتحة على كل الاتجاهات، ولكنها قابلة للنظر وتحت الاهتمام!. يعني عبارات أشبه ببيانات رسمية في منظمة دولية مضطربة! تنتهي بعبارات هي حتما لغز لا معلومة و لا موقف فيه.
وستجد بعد مضي العمر فى سراديب مختلفة، أن الأيام وتقلباتها، تعلمك أن لا موقف أهم، في زحام يومك المليء بالأسى غير أن تجد موقفا متاحا في مِرآب السيارات، وأن الرجال مواقف فى أرصفة الشارع لا فى مفاصل الحياة.