بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

في زمن تُختزل فيه المشاعر وتُختصر القصص في عناوين عابرة، تأتي رسالة إخلاص فرنسيس “لسنا قصّة عابرة” كنداء ناعم وموجِع يعيد الاعتبار للحب كذاكرة نابضة، لا تنطفئ. لا تكتب الكاتبة قصة حب، بل تسكنها، وتترك للحنين أن يخطّ رسائله على جسد الورق، ويصنع من الغياب حضورًا دائمًا.
هذه القراءة تسعى إلى تتبع خيوط النص وتفكيك مستوياته النفسية والجمالية، للكشف عن بنية الحنين حين يتجسّد لغةً، ورسالةً، وطقسَ خلود.
هو نصٌّ مزيج بين الرسالة الأدبية والنثر الشعري، ويتّخذ شكل مونولوج داخلي يُكتب لحبيب غائب، فيه تماهٍ واضح بين الذات الكاتبة واللغة، وبين الذكرى والحنين، بما يحمله من شعرية وجدانية غنائية، وتكثيف شعوري ولغوي يقترب من القصيدة النثرية، لكنه يظل أقرب إلى الرسالة النثرية الشعرية ذات الطابع التأملي الغنائي.
إذن:
تجنيس النص: رسالة نثرية شعرية (نثر غنائي)
ينتمي إلى جنس الرسائل الأدبية ذات الطابع الغنائي التأمّلي، ويمكن تصنيفه أيضًا ضمن أدب الحنين/الاعتراف/السيرة العاطفية المضمّنة.
ندرس النص وفق المستويات الذرائعية :
1. البؤرة والخلفية الأخلاقية:
البؤرة تدور حول: الحنين إلى حبيب غائب، والاعتراف بأن العلاقة ليست عابرة بل كيانية وجذرية في الوجدان.
الخلفية الأخلاقية تحمل مشاعر الوفاء، التوق، الصبر، وعدم التنكّر لتجربة الحب حتى في ظل الانفصال أو الجفاء. هناك وفاء لما كان، ولما لم يحدث أيضًا.
2. المستوى البصري:
يتجلّى في صور حسّية عالية، كالموسيقى الخارجة من النافذة، الناي، قارورة العطر، الكأس، المسودات المبعثرة، النافذة المغلقة، الضباب…
“الحنين يغمس ريشته في دمي”
“يدي ترتجف كالعصفور في يدك”
كلها صور تشكّل لوحة تشكيلية شعورية مشبعة بالرقة والاغتراب.
3. المستوى اللغوي:
لغة أدبية عالية، تحفل بالاستعارات والمجاز، تُمزج بين البساطة والانسياب الداخلي المعقّد.
تتكرر الموسيقى كحضور رمزي وعاطفي.
يتكرّر الفعل الحسي كـ: “أُقبّل”، “أعضّ”، “أفتح”، “أُقرّب”، “أصرخ”، مما يدل على تشظي النفس وتعبيرها المتواصل.
الأسلوب الإنشائي حاضر بكثرة: “هل أقول لك…؟”، “من يمسح؟”، “من ينقذني؟”، ما يعطي طابعًا تأمليًا، استبطانيًا.
4. المستوى الديناميكي:
النص قائم على الحركة النفسية الداخلية، لا أحداث فعلية خارجية، لكنه يتحرك عبر مشاعر متصاعدة:
(البدء بالحنين – التوتر – الانهيار – التماسك – الاعتراف النهائي بالحب).
يتحوّل الليل إلى رفيق للذات المحبّة.
ويتحوّل الحبيب الغائب إلى معادل موضوعي لفكرة الفقد والانتماء.
5. المستوى النفسي:
النص مرآة لذات مأزومة، تعيش على الأطلال، تتوسّل الماضي، تُنقّب في الذكرى، وتُغذّي الحبّ رغم وجعه.
الذات الكاتبة مصابة بما يشبه اضطراب الحنين المزمن، واحتراق الهوية في صورة الآخر، ويتضح من عباراتها:
“مرمية ومشلوحة بين الجدران العارية”
“أفتح درج مكتبي، أرفع إلى شفتي قارورة العطر”
“من يمسح آثار الزمن عن وجهي؟”
تحوّلت العلاقة العاطفية إلى مسكّن وألم في آن واحد.
6.التجربة الإبداعية لإخلاص فرنسيس:
ينبثق هذا النص من تجربة إبداعية تستند إلى كتابة الوجدان من عمق الشعور الشخصي، لا بوصفه حدثًا خارجيًا، بل كحدث داخلي متكرّر يتجدّد مع كل مساء. الكاتبة لا تروي قصة حب، بل تعيشها من خلال الكتابة، بحيث تصبح الكتابة نفسها امتدادًا للحب ووسيلةً للمقاومة ضد الفقد والغياب.
اللافت في التجربة أن إخلاص فرنسيس لا تكتب من موقع الضحية ولا من موقع البطلة الرومانسية، بل من موقع المرأة الذاكرة، التي تحمل حبيبها داخل تفاصيلها اليومية، وتحوّل الأشياء البسيطة (قارورة العطر، الراديو، النافذة) إلى رموز حيّة لوجوده.
تعتمد الكاتبة على التلقّي الموسيقي للألم، فالموسيقى ليست خلفية صوتية في النص، بل بنية شعورية تتكرر كأنها “ترانيم الحنين” التي ترافق الرسالة. كما أن اختيارها للصيغة الرسائلية يعكس ثقتها في أن الكلمات قادرة على جسر الهوة بين الذات والآخر، بين الذاكرة والواقع.
هذه التجربة لا تستمد قوتها من الحب وحده، بل من الإيمان بالكتابة كخلاص وجودي، حيث تذوب الذات في اللغة، وتتخلى عن الزمان والمكان، لتخلق وطنها الحميم على الورق.
بالختام:
نص “لسنا قصّة عابرة” هو طقس وجداني مكتوب بلغة مشحونة ومكثّفة، يمزج بين الحب والغياب، وبين العاطفة والصمت، حيث تصبح الكتابة رديفًا للحياة، والحبيب الغائب أكثر حضورًا من كلّ الحاضرين. إنّه نصّ لا يقرأ بعيون نقدية فقط، بل يُلمس بالقلب.
لسنا قصّة عابرة
وأنا أتهيّأ للنوم يطالعني صوت البيانو من خلف النافذة، فتنبت في داخلي أجنحة الحنين، يمسك بيدي، يسير بي إلى القلم والورقة لأكتب لك، الموسيقا تؤلّف سلّمها كلمات من حب، تقاسيم من أشواق، وكأنّها نهاوند، منفردة، متفرّدة على عود الحزن واللهفة. هل أقول لك: مساء الخير وأنت في طريق الشمس تسير؟ الآن وأنا في هذه الغربة المكهربة، تمسّ أطرافي الجنون، كلّ الكائنات أوت إلى مخادعها، أستعدّ للخلود إلى هذا الليل البارد الطويل، محتلّة بالتوق، ومسكونة بالوجع، أقول: أحبّك أو لا أحبّك، عواصف وصرخات وتناقضات تمتدّ على طول دفتري وعرضه، بذور منثورة من توهّج دمعة ناي، أفتح درج مكتبي، أرفع إلى شفتي قارورة العطر التي أهديتني، أقبّلها، الموسيقا ما زالت تعزف، والحنين يغمس ريشته في دمي، يسري في وريدي دمك، مرمية ومشلوحة بين الجدران العارية، أعضّ على جرحي، وخارجها أسوار المسافة تحول بيني وبينك ، كلماتك ترنّ في أذني، ويدي ترتجف كالعصفور في يدك.
الضباب يخفي دمعتي، أسير نحو الغياب بخطى وئيدة، وفي خضمّ يأسي أتفقّد صدري، جسدي بين مطرقة القلب وسندان العقل، أوراقي تعبّ الدمع كلما زارها طيفك. من يطلق الرصاصة الأخيرة، وينقذني من ضياعي. نظراتك ترجوني أن أبقى قليلا. من يمسح آثار الزمن عن وجهي، ويرتق الشرخ المغبر بالشيب؟
نار وريح وبشر، وكما في كلّ مساء، أصير للوقت تسلية، يبني لجسدي زورقاً من مئات الرسائل، وكفناً من الحروف، أمام ناظري تصطفّ كالنخل شامخة، أكاد أمدّ يدي لأصافحك ، علّها تسقط من كتبنا المسافة، أو أخرج من هذا التمثال الرخامي، لأعود إلى سجن ذاكرتي التي تدوّن في مفكّرتها يومياتي في منفاك، ترسم هزيمتي وصدى الأنين في همهمات مبهمة، مطعّمة بالصمت العتيق، والبكاء الطويل. هرمت جدائلي، والحنين ازداد مرارة، أحاول أن أقرّب الغد، لأنجو، فالعذاب شيطان أخرس، يفترسني بأنيابه. كلّ شيء حدث مثل ومض البرق، وكأنّنا لم نلتقِ، حلقات مفكّكة بدا المصير، والتفسير الوحيد أن أؤمن بالوجود، وأن ألهث خلف حدسي. يقودني ساعي البريد إلى كوكب آخر، في كلّ مرة يفتح جعبته على باب غير بابي، يفتح جرحي، يشحذ السكين، كلما قلت اقترب الأمل، ازددت بعدًا، أرقبه يبتعد، ألعنه كيف غفل عن بابي، ربما أخطأ في كتابة العنوان. أدير قرص الراديو، أبحث عن أغنيات هشّة، لأتحرّر من الإحساس بالفشل، ألملم مسوّدات الرسائل المبعثرة، أملأ كأسي، وأجلس معها نتسامر، تنام على الطاولة، وبين الذكريات الغابرة والكلمات، ألتصق بها، تصرفني فارغة، تسلب منّي القدرة على الرؤيا، أنفض عنّي الموت.
حبيبي.. لسنا قصّة عابرة.
إخلاص فرنسيس