د. حسن مدن
يقال إن لدى الصينيين تقليداً طريفاً يتمثل في اختيار اسم جديد لكل شخص في آخر حياته، غالباً ما يقوم الشخص نفسه باختياره على خلاف اسمه الأول الذي يمنحه إياه والداه أو جداه. فكرة هذا الاختيار آتية من حقيقة أن الإنسان وقد خبر الحياة أصبح بإمكانه أن «يغادر» اسماً لم يعد يمثله، ولا يعكس شخصيته، وأن يختار الاسم الذي يلائم الصفات التي اكتشفها في ذاته، أو الخبرات التي اكتسبها والمعارف التي تعلمها والميول التي أدرك أنه منجذب إليها أكثر من سواها، كأن الاسم الجديد يهيئه لحياة جديدة منتظرة، يكون فيها الإنسان مستعداً لمواجهتها بصورة أفضل، متعلماً من حياته السابقة
وأهم ما في هذه الفكرة الطريفة أنها تعطي الإنسان الذات وحده حرية اختيار الاسم الذي يناسبه، فهو وحده أعرف بنفسه، بعالمه الداخلي، بالمعلن والمخفي من هذه النفس، وإذا كان المعلن معروفاً، فإن المخفي هو ذاك الذي يشبه نقلات الشطرنج الذهنية التي هي جزء لا يتجزأ من اللعبة، والتي قد تكون حيناً أشبه بمقدمات في التفكير السابق للفعل، يقصيها المرء بعدما تنضج في ذهنه الفكرة التي يظن أنها ملائمة، ولكنه ما كان سيصل إلى ما استقرّ عليه لولا تلك النقلات الذهنية السابقة
كانت بطلة الطاهر بن جلون في رواية «ليلة القدر»، وقد صارت عجوزاً بلغ بها العمر أرذله، تشعر بأنها مثقلة، وهي أدركت أن ذلك لا يعود إلى وطأة السنين، وإنما إلى وطأة ما لم يقل، كل ما كتمته وأخفته على مدار عمرها المديد. كانت تقول «لا أعلم أن ذاكرة مملوءة بأنواع الصمت وبالنظرات المتقطعة يمكن أن تصير كيساً من الرمل»
وهي يوم ذاك تكلمت. أدلت بالكلمات شهادة على الزمن، على الحياة الصعبة التي انقضت. وما أكثر من يشبهون هذه المرأة الذين يملك كل واحد منهم مخزوناً من الذاكرة، باعثاً على الدهشة
الفكرة المضمرة في النفس والمستقرة في الذهن قد لا تجد طريقها للعلن أبداً، فما أكثر الناس الذين يثقلهم ما هو مسكوت عنه، الذين تثقلهم النقلات الذهنية التي يمر بها الدماغ، ليكتشفوا في ما بعد أن هذه «النقلات الذهنية» هي ما صنعت خصالهم وطباعهم أكثر مما صنعته النقلات التي نفذوها على رقعة الحياة
ثمة بيت من الشعر لشاعر أجنبي يقول «امش في الهواء.. مخالفاً لما تعتقده صحيحاً». هذه دعوة غريبة، ولكنها تلفت أنظارنا إلى حقيقة أنه ما أكثر الناس التي تمشي، مختارة أو مكرهة، عكس ما تعتقده صحيحاً، تاركة الصحيح يمور في الذهن وحده