
اللغة هي ثقافة المجتمع، لا تنفصل عن وظيفتها، وارتباطها به، وبنتاجه الفكريّ ونوازل حياته.
لا يمكن أن نحلّل أثر جماعة تعاقبت على مرّ التاريخ، إلا من خلال التعبير عنها في اللّغة، فتظهر أهميّة التلازم المصيريّ بين اللّغة والمجتمع، فضلاّ عن أنّها تصون عادات المجتمع ومعتقداته، وتحفظ هويته.
إذا ً تتجاوب اللّغة مع معطيات الحياة، وتحقق اجتماعية الفرد، بكونه كائناً اجتماعيا، يعبّر عن ذاته وعلاقاتها من خلالها.
في زاوية دافئة من الزّمن، تبقى الكلمات تحمل دفء الأصوات التي نحبها،… في قصّة «اللوزة الحريصة» ضمن مجموعة عطر التّراب للدكتور علي حجازي، الصادرة عن دار البيان العربي، تأخذنا نسمات حنين إلى الماضي، لنتشارك جلسة جمعت الجدّة مع حفيدها يوسف، لتروي له علاقة شجرة اللوز بالشمس مع مروحة تعاقب الفصول.
لم تكن الحكاية مجرّد أقصوصة ما قبل النّوم، بل كانت نبعاً عذباً يتدفّق من أرض الوطن، يحمل في طيّاته بذور الحكمة التي زرعتها الأجيال في تربة الأمثال الشعبيّة، وسقتها بمطر التجربة. من خزائن الأمثال الشعبيّة، تستحضر الجدّة عبارة «يا لوز يا مجنون، ليش ازهرت بكانون؟»
لم تصف الجدّة مشهدا من الحقل، بل كانت تزرع في قلب الطّفل درساً عن التسّرع ، عن الطيش الذي لا يُثمر، وعن أهمية الإنصات إلى صوت الفصول على عكس شجرة الرّمان المعروفة بالحكمة والنضوج وعدم التسرع..
في عبارة أخرى «شمس شباط ل كنتي..» دعت الجدّة الطفل للحذر من شمس شباط الغدارة فهي ليست قرصا في السّماء، بل مقياساً خفياً للحذر والطمأنينة.. وفي «شمس آذار ل بنتي..» أدرك الحفيد ان الدفء يأتي بحنان ورعاية وخوف على الآخر، كما تنضج القلوب شيئا فشيئا..
وفي مشهدية جمالية تلعب الاستعارات دوراً محورياً، ليس فقط في نقل المعنى، بل في تجميله وتكثيفه وتكريسه في الوجدان.
اللغة هنا لا تكتفي بأن تصف، بل تُحوّل الأشياء إلى كائنات حيّة، تنبض و تفكّر، وتتصرف كما الإنسان.
إنّ الطبيعة تتحوّل إلى مرآة تعكس مشاعرنا، وتتكلّم بلغتنا، فتسقط عليها خيباتنا، أمالنا، ودهشتنا… لا يخلو المشهد من التّوزيع الرمزي، حيث يزخر النّص بحفنة من الاستعارات التي تُضفي على النّص بعدا إنسانياً، وتجعله شريكاً في الحياة.
« يفتح شباط عينه الضيقة.. وعندما يغمض العين السالمة.. تتمطى وتتثاءب فتحجب وجه الشّمس.. اصطكت معها أغصان الشجر… خد الأرض..
ولا يخفى عنا صورة الفقد التي لازمت الطبيعة فالأشجار ثكالى يندبن في مأتم..
وأنسنة الاشجار بعبارة «إنها شجرة مرهفة الأحاسيس.. هذه الصور وغيرها ولدت جمالية، منحت النّص حياة ودفئا، وسهلت على المستمع حفظ الحكمة المغلّفة بالمجاز، فالاستعارة هنا ليست مجرّد تزيين لغوي، بل وسيلة تعليمية فنيّة تنقل القيم و المعاني العميقة بأسلوب شاعري مميز.
في هذه القصة تصبح الجدّة معلمة، ويغدو الطفل أرضاً خصبة تنتظر البذور، تتحوّل الحكاية إلى مرآة يرى فيها الجيل الحاضر ملامح ماضيه، وتصبح الأمثال جسراً من الطين والعطر، يربط القلب بالتراب، والفكر بالأرض والعين بالسماء.
الثقافة الشعبية ليست ماضياً، بل كنز حي يتجدد في كل قصّة، ويعيد ترتيب علاقتنا بالنّاس، بالزّمن وبأنفسنا.
هي ذاكرة القرى وصورها التي داعبت الخيال ولم تكتبها الكتب، لكنها نُقشت في الوجدان، وتناقلها الأجداد كما يتناقل السّر الثمين، وهكذا.. بين دفء الجدّة ودهشة الحفيد، تزهر الحكمة، وتكبر الحكاية.
وفي ختام القصّة، نستخلص العبرة مع الحفيد، شجرة اللّوز تحسب ألف حساب للعواصف، فعلى الشعوب التي تتهدد بالإبادة أن تكثر الولادات…
وهنا إسقاط الأدب الملتزم بالقضايا، عبر رسالة حملها الحفيد بعد أن أنضجته حكمة الطبيعة….