بنى رجلَ ثلجٍ، شبيهًا به، مثلَما تخيَّلَ نفسَهُ حينَ يكبُر. تركَهُ وحيدًا في وحشةِ الصَّقيعِ على مرتفعٍ قريبٍ من منزلِهِ، ولم يتفقَّدْهُ مرَّة.
شُغلَ عنه برجالِ ثلجٍ صغارٍ يبنيهم، في باحةِ المنزلِ، ليقطِّعَ بهم الوقتَ الأبيضَ الطويل.
انقضى فصلُ الشِّتاء. فتذكَّرَ، حين انبسطَتْ أمامَه الطَّبيعةُ خضراءَ، شبيهَه. هرعَ إليه. لم يجدْه. سألَ عنه رعيانًا وطيورًا مرُّوا بالمكانِ، فهزئُوا بِه، وتابعوا طريقَهم.
وقفَ حيثُ بنى رجلَ الثَّلجِ، وتلفَّتَ في غيرِ جهة. كانَتِ الشَّمسُ، أنَّى تلفَّتَ، ترسمُ على تقاطيعِ وجهِهِ البريءِ ملامحَ الرَّجلِ الَّذي تخيَّلَهُ… أسلوبَها في الاعتذارِ عن ذنبٍ تقترفُهُ كلَّ ربيعٍ، ويسامحُها عنه الصِّغارُ… كلَّ شتاء.
***
طالَتْ لحيةُ الختيارِ البيضاءُ. راحَ يمشِّطُها لتبقى جميلةً وَنظيفةً،
تعوِّضُهُ بعضَ شبابٍ، وَتُغوي النَّاظرَ إليهِ وَإليها.
كانَ مستلقيًا حينَ أيقظَتْهُ أصواتٌ تملأُ الفضاءَ أمامَ عينيهِ كعصافيرِ الشِّتاءِ، وَوَقْعُ أقدامٍ خدشَ هدوءَه وسكينتَه، وَسعادةُ أصابعَ صغيرةٍ كانَتْ تجمُّ الفرحَ وَتقبضُ عليهِ بما أوتيَتْ من براءةٍ.
شاءَ النهوضَ ليلاقيَها جميعًا، فَلَمْ يقوَ. سَخِرَ منْهُ سريرُه، الجبلُ،
وَضحكَ في سرِّه، ليقينِه أنَّ الرَّبيع آتٍ غدًا، وَأنَّ العجوزَ المتصابيَ
يغرقُ، كلَّ عامٍ، في أوهامٍ منْ ثلجٍ…!!!
***
أَلْبَحْرُ…
أَجْمَلُ الْمَرَايَا.
يَكْفِي أَنَّ مَنْ تَقِفُ قُبَالَتَهُ، طَوَالَ النَّهَارِ، لِتُسَرِّحَ شَعْرَهَا الْمَلَائِكِيِّ
امْرَأَةٌ… اسْمُهَا السَّمَاءُ.
***
يُنبِتُ الرَّملُ على أَصابعِها ماءً وَملحًا وقصورًا وَأشكالًا غريبة. تتحدّى بها، على الشّاطئِ، موجَ البحرِ الَّذي لا تجرؤُ على امتطاءِ صفحتِهِ الزَّرقاء.
تتحدّى الصَّغيرةُ البحرَ. وَتحملُهُ، كما لعبتُها، إِلى خيالِها الواسعِ،
تُغري بهِ أحلامَها الكثيرةَ، كثرةَ حُبَيْباتِ الرَّمل. وَفي ظنِّها وَيقينِها،
أنَّها تروِّضُ البحرَ، لتتَّحدَ وَإِيَّاهُ، سَفَرًا دائمًا في المُغامرةِ، وَصديقيْنِ… تتمرَّى السَّماءُ في وجهَيْهِما.
***
لَا تَعُودِي…
لَا مَكَانَ فِي قَلْبِي
لِلْفَرَاغِ.
***
أَنْتِ مَنْ تَأْسُرِينَ اللَّيْلَ بِقَمَرِ حُضُورِكِ،
وَالْقَمَرُ يَحْلُمُ بِقَلْبِكِ
شُبَّاكًا لِعَصَافِيرِ عَيْنَيْهِ.
***
أَوَّلُ الزَّهرِ أنَّ النَّظرتَينِ التَقَتا. وأوَّلُ العطرِ أنَّ وجعَها – الأَربعَ الشِّفاهَ – فاح. وأوَّلُ الربيعِ أنَّ الجسدَينِ صارا جسَدًا. وَروعةُ البَدءِ… أنْ كلُّ شيءٍ أُكمل.
***
دَهَمَتْهُ وَهوَ يكتبُ عنْها. فأحسَّتْ أنَّ نصفَها أمامَهُ، وَنصفَها الآخرَ على الوَرق… وَكلَّها لهُ، حقيقةً وَخَيالًا.
***
“يَلْزَمُني بعدُ عصفورٌ لتكتملَ لُغتي، وَضَوْعَةُ عطرٍ لأختِمَ ديواني”. قالَتِ الحسناءُ إِنَّ حبيبَها الشَّاعرَ ماتَ وَهوَ يبحثُ عنْ ضالَّتِهِ هذهِ عبَثًا. سمعَها شاعرٌ، وَهيَ مستسلِمةٌ لحزنِها، وَقدْ رأى في عينيْها غاباتٍ تُطربُها أجواقُ العصافيرِ، وَفجرُ الأزاهيرِ يولدُ كلَّ لحظةٍ فيهِما… وَسألَ: أتقولينَ أنْ شاعرٌ مَنْ فقدْتِ؟ أجابَتْهُ: بلْ كانَ الشِّعرَ… كلَّ الشِّعر! فقالَ: أذًا – أظنُّني – لمْ ينظرْ مرَّةً في عينيْك! وَقبلَ أنْ تجيبَ، سمِعا صوتًا منْ بعيدٍ: “أُعذُراني – يا عينيْنِ – وَارْحَما كِبريائي. ليُمحَ كلُّ ما كتبْتُ، فأنتُما قَصيدتي الوحيدةُ، أنتُما حَياتي الجَديدة. فأعلِنا قِيامتي!”
***
كثيرًا ما يعودُ إِلى البيتِ مخمورًا، تُنبئُ رائحةُ الخمرِ بمجيئِهِ، منْ بعيدٍ، كأنَّها عطرُهُ، سِمَتُهُ، ضوْعُ اللَّامبالاةِ في بستانِهِ الَّذي منْ عدميَّةٍ وَعبث. يعودُ، كلَّ يومٍ، أقلَّ ممَّا هوَ عليْهِ منْ توقُّدِ ذهنٍ وقوَّةِ حضورٍ، فيكادُ يغرقُ في بحرٍ منَ العيونِ الْمُحِبَّةِ تَبكيهِ، وَيُشفقُ عليْهِ مدخلُ البيتِ، وَلا تعودُ حجارتُهُ قادرةً على إِسنادِهِ، فترزحُ تحتَ عبئِه… وَينهارُ البيت!
***
(في ذكرى وفاة والديَّ في 30 تشرين الثَّاني، بفارق ست سنوات بينهما. أبي عام 2001، وأمِّي عام 2007):
أَلْيَاسَمِينَةُ عَلَى مَدْخَلِ بَيْتِي:
أَجْمَلُ مَا بَقِيَ مِنَ ابْتِسَامَةِ أُمِّي
وَرِفْعَةِ جَبِينِ أَبِي…
***
أَلْأَبُ أُمٌّ مِنْ دُونِ رَحِمٍ.
وَلَدَنِي أَبِي مِنْ قَصِيدَةٍ وَمِنْ لَوْنِ عَيْنَيْهِ…
***
رُبَّ أُمٍّ لَمْ تَلِدْكَ…
***
إلى أبي:
أَحْبَبْتُكَ فَوْقَ التُّراب،
وَأُحِبُّكَ تَحْتَ التُّراب،
وَسَأُحِبُّكَ
إِلى أَنْ يَصيرَني التُّراب.
***
إلى أمِّي (وكانت بعدُ على قيد الحياة):
أراهُ فيكِ وبكِ،
يُطِلُّ وجهُه منْ قَسِماتِ حزنِك، وَنبرةُ صوتِه منْ موسيقى بسمتِك.
أنتِ اشتقتِ إليهِ. وَأمَّا شوقي إليهِ… فلَبِسَ ما بقيَ لي منْ عُمر.
منْ أَجلِ ذكراهُ، وَكُرمى لعينيكِ،
أنا وَذكراهُ ونُبْلُ الدَّمعِ… نُحِبُّكِ!