بقلم: أمل صيداوي
جرح في ظهر الخيل تحت السّرج متداري
لا الخيل تشكي و لا الخيّال داري
المتنبي
المعنى هنا ان الكثير من الناس يحملون هموماً وجروحاً لا نعلمها، اذاً يجب علينا ان نكون أكثر تفهماً في تعاملنا معهم.
رواية النباتية “للأديبة: هان كانغ، ترجمها عن الكورية دكتور: محمود عبد الغفار” صرخة تحذير واحتجاج في وجه المجتمع الظالم، وفي وجه النساء اللواتي يسكتن عن هذا الظلم. نتضامن في الفصل الأول مع الزوج المسكين الذي يشكو تحوّل زوجته “يونغ هيه” الطيبة والقنوعة بحياتها الزوجية إلى نباتية. ثم تتفتح أعيننا شيئاً فشيئاً على أشياء هامة ألا وهي :أن بطلة الرواية تعاني من رتابة الحياة الزوجية، هي لاتمتلك إرادة حرّة وقدرة على السيطرة على الذات وخياراتها أمام سطوة القوى الاجتماعيّة المحيطة بها، فتقرر التمرّد على واقعها وذلك بعد رؤيتها لحلم مزعج فتصبح نباتية. لم يكلّف زوجها نفسه عناء سؤالها حول تفاصيل حلمها وعن أحوالها معه وعن حاجتها إلى طبيب نفسي يساعدها في تجاوزمحنتها بل تعدّى ذلك إلى أنه كان لايهتم بها ويعتبرها امرأة عادية كسائر النساء تأكل وتطبخ وتكنس وتمسح وتقوم بواجباتها الزوجية.
تؤدي هذه النظرة المادية السائدة لدى أغلب الذكور (وليس الرجال) في المجتمع الكوري إلى مرض نفسي لدى البطلة وتتأزم حالتها أكثر عندما يشكوها زوجها لأهلها (هكذا تصرفات بعض البشر يُسيئ إليك ولا يشعر بجرحك) !! فيضربها أباها وتلومها أمها لعدم أكلها اللحوم أما زوج أختها فقد استغل أزمتها النفسية أبشع استغلال. لم تجد البطلة من يؤازرها ويقف معها في محنتها النفسية، ورغم إرسالها إلى مصح علاج نفسي من قِبَل أختها الكبرى ” كيم يونغ هيه” المثقلة بالأعباء الحياتية والتي تدير متجراً لمستحضرات التجميل، لكن في نفس الوقت كانت البطلة بأمس الحاجة إلى مساندة بقيّة أهلها: والدها ووالدتها وشقيقها ودعمهم المعنوي لها. تأزّمت حالتها في المصح إنه “الفصام الكتاتوني” كما توضحه لنا الكاتبة على لسان إحدى شخصياتها الثانوية، هذا المرض النفسي الذي استبدّ بالبطلة وهو مرض عقلي ذهاني يؤدي إلى عدم انتظام الشخصية وإلى تدهورها التدريجي. تراكمات نفسية كثيرة كانت مفجعة حين طفت على السطح فدفعت صاحبتها إلى حافة الجنون، تلك التراكمات النفسية تشبه البركان الذي يتراءى للناظر إليه بأنه خامد ثم يثور بعد حين فتخرج منه الحمم البركانية التي تقضي على كافة أشكال الحياة. كان الدعم المادي والنفسي من شقيقتها الكبرى فقط التي قررت فيما بعد وضعها في مصح علاج خاص كي تتحسن حالتها. كان لذكريات الأخت الكبرى مع أختها الصغرى المريضة نفسياً أكبر الأثر في إحساس الأخت بما تعانيه وعانته أختها من قسوة وتهميش وإقصاء وإهمال من قِبَل أهلها في فترة طفولتها ومراهقتها ومن قِبَل زوجها بعد زواجها. تعرّفنا من خلال الرواية على المجتمع الكوري الأطعمة والحياة الاجتماعية، وعلى قوّة العرف الموجود عندهم والقاضي بتحكّم الذكور والعائلة بحياة أولادهم وهذا شائع في مجتمعاتنا الشرقية أيضاً.

أبرز المواضيع
• العلاقة المادية للزوج بزوجته: تعكس الرواية مقدارالألم الذي نشعر أنّ بطلة الرواية تعيشه بصمت في مواجهة واقعها المرير يقول الزوج: “بما يتفق مع توقعاتي، فقد خُلقت تلك المرأة لتكون زوجة عادية تماماً، تسيرالأمور بلا أي تصرفات طائشة غير مرغوب فيها” صفحة 6 ، “مع مثل هذه الزوجة وهذا النمط من الحياة، كانت الأيام خالية من المتعة” صفحة 7و8.
•سلبية الزوج تجاه مرض زوجته النفسي: يقول الزوج:”عندما يجتازشخص ما تجربة تحوّل قاسية، لايكون في وسع الشخص الآخر أن يفعل شيئاً غير أن يتركه يواصل مابدأه” صفحة 20.
•التاريخ: تحتوي الرواية على إشارات لتاريخ كوريا المضطرب في فترة الاحتلال الياباني لكوريا حيث أجبر عدد من الجنود اليابانيين بعض النساء الكوريات على مضاجعتهم. يقول الزوج عن زوجته التي كان يُكرهها على مضاجعته رغم معرفته بحالتها النفسية السيئة: ” كانت مثل امرأة تقدّم خدماتها مكرهة إلى جندي ياباني” صفحة 39. وفي فترة مشاركة الكوريين للفيتناميين الشماليين في القتال ضد الحكومة الفيتنامية في الجنوب المدعومة من الولايات المتحدة يقول الأب: ” كنت هناك ..في فيتنام…سبعة من الفيتكونغ” صفحة 37.
• العنف الأبوي في ماضي وحاضر البطلة : حكت أختها ” كيم يونغ هيه” عن ذكريات طفولتهما وعن العنف الأبوي الذي كانتا تتعرّضان له وذكرت بأن شقيقتها الصغرى كانت تتلقى صفعات أبيها العنيفة بألم أكثرمن بقيّتِهم، كما أشارت الأخت الكبرى إلى قسوة أبيها في تعامله مع أختها الصغرى: ” لم يُثنِ على حنو يونغ هيه وفطنتها قط” صفحة 193.
فيما بعد، وبعد زواج يونغ هيه وتحوّلها إلى نباتية تعاملَ الأب بمنتهى القسوة وصبّ جام غضبه على ابنته “يونغ هيه” النباتية لأنها لم تلبي توقعاته في التراجع عن قرارها، يحكي الزوج الذي وقف موقف المتفرّج
” كان حماي قد هرس قطعة لحم الخنزير في شفاهها بينما كانت تقاوم بألم”. “هبّت فورة غضب حماي ثانية، وفي النهاية صفع زوجتي مرة أخرى” صفحة 50.
• عدم وجود صدر حنون تلجأ إليه تشكوه آلامها ووحدتها وعدم شعورها بالأمان: تمّ ارتكاب أخطاء جسيمة في تعامل جميع أفرادعائلتها معها بما فيهم الأم والأخت اللتان حاولتا إقناعها بتناول اللحوم وهما تعلمان أنها اتخذت قراراً لن تتراجع عنه، وتعامل شقيقها الأصغر وزوجها اللذان بناء على رغبة والدها أمسكا بيديها كي يرغمها والدها على تناول لحم الخنزير.يلامس هذا المفهوم مقولة جان بول سارتر: “الجحيم هو الآخرون” حيث تتحول “يونغ هيه” فيما بعد إلى كائن منبوذ من أفرادعائلتها.
• تراكمات المعاناة والآلام في حياة البطلة:
أ. حكت بطلة الرواية “يونغ هيه” عن الكلب الذي عضّها عندما كانت طفلة، وعضّ ابنة صاحب المنزل وكيفية تعامل أبيها المفعم بالقسوة والعنف والوحشية معه: “ربط أبي الكلب إلى جذع الشجرة ثم لسعه بالنار”. “شغّل أبي محرّك الدرّاجة البخارية وراح يدور بها في دوائر والكلب لايستطيع أن يتوقف عن الجري”صفحة 52. “في الدورة السادسة، تقيّأ الكلب دماً بلون أحمر داكن كان يتقطر من فمه وعنقه” صفحة: 53.
ب.تكرار الأحلام التي تشبه الكوابيس: أول حلم الذي رأته “يونغ هيه” والذي كان أحد أسباب تحوّلها المفاجئ إلى نباتية: “أقبع مختبئة وراء الأشجار كي لايراني أحد. يداي ملطّختان بالدم، فمي ملطخ بالدم” صفحة 16. ثاني حلم: “حلمت مرةأخرى أحدهم قتل شخصاً آخر وثالث أخفى المقتول”. صفحة 35. ثالث حلم: ” كانت يداي في الحلم حول عنق شخص ما، ومازالت لم تقتلعه” صفحة 41.
• زوج أخت “يونغ هيه”: هو فنّانٌ مغمور يستأذن زوجته لزيارة أختها الصغرى في منزلها بعد طلاق”يونغ هيه” من زوجها فتأذن له، يذهب للزيارة بحجة جلب الطعام النباتي للأخت الصغرى ويتأكد من أنها لازالت بوضع نفسي سيء، يقوده هوسه بجسدها إلى إقناعها بمضاجعته وبتصوير مايحصل، فتشاهدهما زوجته وترسلهما إلى مصح عقلي.
• شخصية الأخت الكبرى” كيم يونغ هيه”:
- تذكر الكاتبة: ” منذ طفولتها كانت لاتروم لنفسها أن تكون كبقيّة الناس من حولها”. “تمتّعت بشخصية قويّة” “شخصية صادقة بالفطرة كإبنة وكأخت كبرى لشقيقها وشقيقتها وكزوجة وأم” صفحة 170.
- معاناة ” كيم يونغ هيه” في حياتها الزوجية تقول الكاتبة: ” لقد أدركت للمرّة الأولى كم من الوقت عاشته مع زوجها. ذلك الوقت الذي كان خالياً من السعادة”. ” وقتٌ واصلتْ فيه المضي قُدُماً بكل مالديها من صبر واهتمام ورعاية” صفحة 198.
أهمية الرواية:
•رواية “النباتية” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي تجربة فكرية تجبرنا على مواجهة هشاشة وجودنا والاعتراف بضعفنا أمام قسوة العالم، حيث تقدم الأديبة من خلال “”يونغ هيه”: صورة مأساوية للبشرية، تُشعرنا بغربتنا الداخلية وتحفزّنا على إعادة النظر في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
•تُبرز الأديبة فكرة انفصال الإنسان عن ذاته وعن الآخرين حين يجد نفسه غير قادر على التعرف على حياته أو قبولها.
• تطرح الرواية سؤالاً وجودياً عميقاً :”إلى أي حدٍّ تتحدد هويتنا من خلال نظرة الآخرين إلينا؟”
•الرواية ليست مجرد سرد للأحداث، بل تأملات وتحليل فلسفي عميق لقضايا الاغتراب عن الذات والمحيط، ولعزلة الفرد، ولهشاشة الروابط الاجتماعية.
• أحد أسباب الاضطرابات النفسية في المجتمعات الصارمة والقاسية ذات السلطة الجمعيّة هو عدم استيعاب وتقبّل آراء الآخر ما ينتج عنه عدم حدوث أي تغيير لا في الحاضر ولا في المستقبل.
