(أخيرا صار لي وطن ..صار لدي واحة نخيل قربي..أرى نخيلها يتهادى كل يوم)
هكذا عبر الكاتب محمد الأصفر في روايته..فحينما غاب بطل الرواية عن وطنه جغرافيا..استنبت بذوره معه في غربته..
كانت النخلات الباسقات في ألمانيا صلته بوطنه..وسفيرا من وطنه لأرض هجرته..
هكذا تبادلت الأدوار في الرواية..فالنخل بتمره..والقعمول الشوكي بأصالته..ينتقل جيئة وذهابا بين الشرق والغرب..بين ليبيا موطنه وألمانيا مهجره..
كلاهما يعطي الآخر مايفتقده..
ظهر بطل الرواية..بصورة الانسان الطيب المسالم..النافع لغيره..والمتواصل مع الآخرين..منتميا لمدرسة الانسان الخير بطبعه..المحب للحياة والناس والبيئة..
وأن الشر مرحلة عابرة في حياة الانسان..
فالجميع طيبون نافعون مسالمون..
فأباه صانع للمصابيح الزيتية..من بقايا زجاجات الأجانب..واليهودي (موشي) ابن بلدته..والذي هاجر قسرا مثله لأوروبا..يحن مثله الى موطنه ..ورافضا للمشروع الصهيوني المعادي للبيئة والانسان..
يسترجع البطل محطات حياته..من وادي كعام..الى شواطئ طرابلس والشعاب..الى بنغازي..الى المانيا..
محطات غنية بالمواقف والاشخاص..
(وقررت بيني وبين نفسي..أن أخلق عالمي الجغرافي والتاريخي من خلال النخيل..حتى شعرت وكأنني أعيش في وطني)
هكذا يقول البطل..
وبينما يستنشق روائح الأشياء مسترجعا لعالمه ..يقول(يبدو ان ذاكرة العطر أطول من ذاكرة الصورة)
وبينما يتنقل البطل بين هذه العوالم يسرد فلسفته في الحياة قائلا:(كل موجة لها بصمتها الخاصة..كل موجة ميلاد جديد لحياة جديدة..وعندما يصمت البحر ويهدأ الموج..لاتصدق أنه ميت..إنه في حالة تأمل وهدوء لاأكثر)..
يمد الكاتب يده للبيئة من حوله..ويتماهى معها في حالة وجدانية ذات ابعاد واقعية..يزرع النخيل..ويحافظ على القعمول..ويخاطب السناجب ..ويقدر طموحات الجرابيع..!!
هكذا يسرد الأصفر في روايته قصة بطله..وحواراته..وتعايشه السلمي مع الكون..ويسبغ المودة والتعاطف والتعاضد بين كل شخوص الرواية..متجاوزا..أفكار وتنظيرات “توماس هوبز” و”فرويد”..حول نزعة الشر لدى الانسان..
بل يملأ أحداث روايته بكل الأحداث السارة..والتي لايكون الشر فيها الا نادرا..مما يجعلك تتوقع معه مآلات الأحداث وطبيعة صيرورتها…
وينحاز للطبيعة قائلا:(لعل كرم النباتات يتجاوز كرم الانسان كثيرا..أو أنه لانباتات شريرة يمينية متطرفة تعرقل نموه الطبيعي النباتي…نواياتي نبتت في ظروف طبيعية..الرياح من كل الاتجاهات حطبت لها بحب ودفء ..حتى البرد الذي حاول ان يقتلها قاومته واحتوته وتأقلمت معه)..
وهكذا يمضي ساردا لهذه الفلسفة..غير غافل عن وصف مشاهداته في رحلته تلك..من طفولته بساحل مدينة الخمس ..ومفصلا بنغازي وتاريخها وعوائدها..وبرقة وشجنها وطبيعتها ..وسواحل طرابلس وتاريخها العريق..
سرد ممتع..ورؤى شاعرية حالمة..وتاريخ يُروى..وفلسفة حول البيئة والانسان تُحكى.