الباحث سليم بدوي أعاد النظر في العلاقة الغامضة التي جمعت بين الكاتب والسيدة الأميركية
أنطوان أبو زيد
ملخص
كتب الكثير عن العلاقة التي جمعت بين الكاتب اللبناني جبران خليل جبران والسيدة الأميركية ماري هاسكل التي أدت دوراً أساساً في حياته ومسيرته الأدبية والفكرية. الكاتب سليم بدوي أصدر كتاباً عن هذه العلاقة وفيه يبرز عناصر جديدة.
ليست سيرة للأديب اللبناني جبران خليل جبران (1883-1931)، ولا هي الأخيرة حول إحدى الشخصيات الفاعلة والحاسمة في حياة الأديب والفنان، عنيت ماري هاسكل (1869-1964)، والتي صدرت حديثاً (2024) عن دار الهالة التونسية للكاتب اللبناني والمؤرخ سليم بدوي (1955) بعنوان “هي والنبي”، مشيراً إلى كل منهما بالاسم (ماري هاسكل، وجبران خليل جبران).
والجديد في السرد الروائي الذي يقدمه لنا الكاتب بدوي وضعه سيرة الثنائي (ماري/ جبران) في إطار سردي ووصفي واف، ويكاد يكون موجزاً وشاملاً، باعتباره مبنياً على مراجع ووثائق ذات صدقية عالية. والأخيرة باتت معروفة ومتداولة على ما يتضح من مراجع الكاتب العربية والأجنبية التي استند إليها لرسم ملامح العلاقة الملتبسة والأكيدة بين ماري هاسكل وجبران في كل مراحل حياة الأديب.
رواية أم توليفة روائية؟
لا يذكر الكاتب ولا الإخراج المطبعي شيئاً عن طبيعة العمل الذي يقدم للقراء العرب، إذ لا ترد كلمة “رواية” في أي من المواقع المخصصة للتعريف بالمنتج المذكور، ولكن الملاحظ أن الكتاب يستهل بتوليفة سردية يتخيل فيها الكاتب شخصية ماري هاسكل، وقد بلغت الـ60 من عمرها، وتصغي، عبر محطة الراديو “إي بي سي”، إلى خطاب القسم يتلوه رئيس الولايات المتحدة الأميركية الشاب جون كينيدي، قائلاً “لا تسألوا ماذا يمكن أن يفعله بلدكم من أجلكم، بل اسألوا ما الذي يمكن أن تفعلوه أنتم لبلدكم”. وللحال يحضر في ذاكرتها جبران أو خليلها صاحب المقالة المدوية التي كان قد خطها عام 1925، مخاطباً فيها أحد نواب الأمة اللبنانية، تحت عنوان “الجبهة الجديدة”، إذ يقول “هل أنت سياسي يسأل ما يمكن لوطنك أن يقدم لك، أم أنت سياسي متحمس تسأل ماذا يمكنك أن تقدم لوطنك؟”.
إذاً، تشكل حادثة الخطاب منطلقاً سردياً ينفرد فيه الكتاب للمضي بسيرة الثنائي جبران خليل جبران وماري هاسكل، وفق منظور الكاتب سليم بدوي، من خلال شريط بانورامي، يغطي 11 مرحلة، من أول لقاء لها معه، عام 1904، وهو لما يزل شاباً في الـ21، وهي مديرة لمدرسة هاسكل – دين الداخلية للبنات، في بوسطن، إلى حين وفاته عن عمر الـ48، وتوصيته بأن يؤول غالب أعماله الفنية إليها، عرفاناً لرعايتها إياه فنياً ومادياً وعاطفياً.
حكاية السيرة الثنائية
أول ما يلفت في هذه السردية أو التوليفة الروائية اعتماد الكاتب على معلومات تاريخية موثوقة وعلى تحقيق دقيق يتجلى في أسماء أماكن وشوارع ومؤسسات في مدينة بوسطن موطن اللقاء الأول بين الشخصيتين إلى إحاطة بالظرف السياسي الذي كان سائداً في حينه. وهو ما أدركه الكاتب والمؤرخ بدوي جيداً وبنى عليه حبكته السردية، مدعماً إياها بأوصاف خارجية، ومطعماً بتحليل نفسي لكلتا الشخصيتين، وإن لم يبلغ فيه ما بلغه ميخائيل نعيمة من تأويلات فكرية وفلسفية، في سيرته عن رفيق دربه جبران خليل جبران، إلا أنه كان كافياً لتظهير مكانة ماري هاسكل ودورها الحاسم في بلورة شخصية جبران الفنية والأدبية.
تعبر الحكاية المستعادة عبر الزمن إذاً من أول لقاء بينهما بمعرض للرسوم، في مبنى هاركور 14 شارع إيرفينغتون، وبإشراف المصور هولند داي، كان جبران شديد الاعتزاز بإنجازها، وأفضى إلى توثيق أواصر الصداقة بين الشخصين. وأتاح اللقاء من ثم دخول المعلمتين جوزفين بيبودي وميشلين إلى حياة جبران العاطفية، بل الجنسية وبداية انغماس في مطباتها مع الشابة الأخيرة، تشهد على ذلك بعض رسائله إليها. وقد يكون غض النظر من ماري هاسكل عن هاتين العلاقتين العابرتين، بنظرها، دليلاً على عمق الرباط العاطفي بينها وبين جبران. يزيده وثوقاً تبني ماري هاسكل له لترسيخ موهبته الفنية، بتكفلها تغطية نفقات إقامته في باريس لسنة 1909-1910، والتثقف على كبار الرسامين والنحاتين في عصرهم أمثال رودان، الذي نوه باللوحة اليتيمة التي تم قبولها من أصل ثلاث للشاب جبران على ذمة الراوي الآتي من باريس.
ولكن الشاب الفنان، وقد آنس من نفسه ثقة واستزاد خبرة فنية وأبصرت عيناه ما طالما تاقت نفسه إلى تحقيقه، بفضل عطف ماري هاسكل، وتشجيعها ومواكبتها له وحدبها على شخصه عزم على مبادلتها ذلك كله بطلب الزواج منها، وهي أكبر منه بأكثر من 10 سنوات. ولئن أكبرت في خليلها هذه العاطفة حيالها، وأمهلته زمناً واستعذبت طلب الفنان العشريني هذا، فإنها رفضت طلبه معللة ذلك بفارق العمر الكبير بينهما، وبالمناخ الاجتماعي المحافظ في بوسطن، وبالمتاح له من عمر الشباب لمزيد من العلاقات الغرامية السوية.
وفي المحطات الثلاث الباقية يحكي لنا الراوي العليم والموثق المحكم، كيف خرج جبران، وعلى مهل، من تحت جناحي ماري هاسكل – من دون أن يغلق الباب دونها – فيمضي إلى مدينة نيويورك، مدينة الصخب والأعمال الناشئة في حينه، وكيف أعد “صومعته”، في أحد الأبنية النيويوركية، وجعلها مرسماً ومعزلاً للكتابة الأدبية في آن، وكيف أنه شرع في التأليف والنشر بالعربية. فأصدر تباعاً، الموسيقى، وعرائس المروج، والأرواح المتمردة، ودمعة وابتسامة، وغيرها. وحاز، بفضل الرسوم التي راح يبيعها، وتتوسط له في بيعها ماري هاسكل، بعضاً من الاستقلالية المادية التي أتاحت له لاحقاً استئجار مكتب آخر، في نيويورك، أليق من الأول من حيث مساحته ووظائفه المختلفة.
وحين لم يرض عن سيرورة كتبه العربية، وقرر الكتابة بالإنجليزية، لم يجد أمامه إلا ماري هاسكل، تحفزه على المضي في هذا الدرب، وعلى قراءة الإنجليزية، والتمكن منها تمهيداً إلى الكتابة بها، ومضاهاة أربابها من حيث المتانة والقوة والإيحاء، بيد أن جهد ماري هاسكل لم يقتصر على تحفيز خليلها لمزيد من القراءة، وإنما لازمته في كل مراحل هذا التحول الحاسم في مسيرته الأدبية، عنيت صيرورته كاتباً بالإنجليزية، تصحح له كل نسخه، وتضيف، وتقترح، وتسهر على إنضاج لغته الأدبية، من دون أن تخفي انبهارها من طاقة العبقرية التي تفجرت أمام ناظريها، وبتوسط ذكي ومحب منها. حتى لكأنها، بحسب ما أراد الكاتب بدوي إظهاره، شريكة صامتة في تكوين إبداعية جبران الأسلوبية، باللغة الإنجليزية التي ما كان يعرف سوى ألفاظ قليلة يوم حطت به قدماه، وأخوته وأمه، أرض بوسطن. ولعل هذه السمة، عنيت سمة المساهمة التكوينية في إبداعية جبران باللغة الإنجليزية، قلما تناولها النقاد الذين انشغلوا بتكوين جبران الفكري، نظير ما قام به خليل حاوي في أطروحته العتيدة (جبران خليل جبران، إطاره الحضاري، وشخصيته، وآثاره) ناسباً إلى بلايك ونيتشه ورومانطيقية روسو وغيرهم تأثيرهم الحاسم في تشكيل عالمه القيمي والفكري. في حين أسقط حاوي من حسبانه لغة جبران الأدبية “المتأنقة” بالإنجليزية التي استخدمها في صوغ “النبي”، لأن الشعراء الرومنطيقيين الأميركيين في زمنه باتوا يتجهون إلى استخدام “مصطلح شعري ينزع منزعاً واقعياً يولي الشاعر القدرة على التعبير عن قضايا العصر” (ص:316)
سير أم سيرة ثنائي؟
صحيح أن سيرة الثنائي (ماري هاسكل/ جبران خليل جبران) أو “هي والنبي” التي أعدها الكاتب سليم بدوي، وأحسن توليفها سردياً، بحيث تكون على هيئة رواية مكتملة العناصر – من دون أن تكون رواية – أوفت الغاية منها، إذ سلط فيها الضوء ساطعاً على شخصية ماري هاسكل، ورافعاً إياها إلى مقام الشخصية الرئيسة، بل الشريكة الأولى في صوغ مصير جبران خليل جبران الأدبي، بل “مستقبله” على حد قولها. وصحيح أيضاً أن الكاتب بدوي كان شديد الأمانة لمصادره ومراجعه الكثيرة التي استعان بها، وأنزلها في مواقعها الدقيقة مع كثير من الحرص والإبانة، تؤازره لغة ساطعة ومقروئية مطبعية لافتة وجميلة، ولكن ثمة أسئلة يحسن بالمتابع أن يطرحها في هذا الشأن، لعله يجد أجوبة شافية عنها، وأولها، هل ماري هاسكل، التي يثبت الغالبية العظمى من الكتاب (ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وجميل جبر، إلخ) حضورها الفاعل في حياته إلى جانب مذكراتها التي نقلتها فرجينيا حلو إلى العربية، كانت الفاعل الحاسم في تكوين عبقرية جبران، وتفتح مواهبه الأدبية والفنية؟
وماذا عن كل من حبيباته اللاتي كان لهن أثر مختلف في حجمه ومداه الزمني بحياته العاطفية والجنسية والفنية والأدبية، على حد سواء؟ ولا سيما أن جبران كان قد ترك رسائل إلى ميشلين وجوزفين بيبودي ومي زيادة ونساء أخريات قد تكشف الأيام كثيراً عن صلاتهن به. وبناءً عليه، ألا تستحق الأمانة للوقائع الجاري اكتشافها معاودة النظر في سيرة جبران مع نسائه، أو في صوغ سيرة أخرى، ثنائية مع إحداهن، غير ماري هاسكل؟ أم أن مجرى حياته السريع والصاخب والعنيف في تحولاته ومآسيه الشخصية، وصراعه المستميت لتكوين ذات إبداعية وفنية، أمات في نفسه صور النساء العابرات، ولم تبق سوى الضنينة على رفاته، وآثاره الخالدة.
أياً ما كان، يسعنا القول إن الكاتب سليم بدوي أخرج للقراء العرب من متون سجلات ومذكرات ووثائق متفرقة نصاً سردياً رائقاً وجديراً بالتأمل عن علاقة جبران خليل جبران بماري هاسكل، وعن مسارهما ومصيرهما المشترك.
ــــــــــــــــــــ
*اندبندنت عربية 8 يوليو 2024م.