يدق المستقبل قلبي فجراً ، يده القاسية تؤلم ..يرد قلبي مسرعاً : كفى .
مستقبل لعين لن يتوقف حتى أغيّر موضع القلب ، من التمدد إلى النهوض .. أضع الركوة على النار ، أُفرغ مثانتي من شوائب المستقبل المرعبة …. أتابعُ لَي المستقبل فأرشُ وجهي بالماء لأصحو من سؤال ( وبعدين ؟ ) وقيل أنه مسّاج جيد للوجه أيضاً.
الجو غائم على وشك البكاء مثلي ، هكذا خمّنتُ ، كيف انقلبَ الحال ، مالذي حدثَ ؟
هطل المطر ، خرجتُ للشرفة وضعتُ قهوتي السّادة على طاولة صغيرة ، مددت ذراعيّ ورأسي ، أستحم بالمطرة الأولى ، قطرات غيمة مسافرة شاهدة لمّت ما لمّت من مشاعر و أحلام ورغبات كزرِّ الورد تتمنى تفتحها …أتيمم فأملأ يديَّ ولا تبخل السماء بمائها ..أمسح وجهي وأتنهد .
أرش ما تبقى على شتلة الحبق وأمرر أصابعي في وريقاتها ، ليست بخيلة تمنحني والجوّ من رائحتها ، تلك الشتلة كانت عقلة أصبع صغيرة قطفتُها من أمّها المزروعة على قبر ابنتي وأودعتُها في أصيص ، شبّت كصبية ( يدي خضراء ) تقول لي صديقتي ، وتلك سمة أحبها .
ما أزرعه أجنيه طيّباً ، إلا مع أجلاف القلب أولئك بذرتهم ميتة .
أحبّ الحبق ، حسّاس ، يحبّ تربته ما أن تجفَّ حتى يذبل ويثور بصمت على عطشه فتهتف أوراقه : اسقيني نصيبي من ماء أرضنا .
كعادتي أفتح الراديو وأترك لمحطة سجيتها في اختيار أغاني فيروز لعل مزاجي يبدله هوى الأغنية ، أرخي جسدي على الكرسي بينما أقلّب في المحطات المشوشة .. المطر يهطل … صوت صاف نادى ” والضحى …. ” بمدٍ طويلٍ لم يراعِ قصره الإملائي ..
وضعتُ سماعةً واحدةً بأذني وبأذني الأخرى أبقيت على صوت المطر فيها …
” والضحى والليل …” أعاد المرتل بنغمة ممتدة ، المطر يهطل ، تربعتُ على الكرسي ، ينوسُ جسدي للأمام والخلف
” ما ودعك ربك وما قلى ” … نسائم باردة تحطّ على وجهي فيعيد القارئ ” والضحى والليل إذا سجى ” .
قطة سوداء تحتمي قرب باب محل الفراريج ، يمر ولد تبتعد القطة مسافة أمان ، فيرفع الولد يده مصبِّحاً عليها : صباح الخير ..وأما صاحب المحل فينادي : بسبس ..بسبس ، ويترك لها نصيبها ، المطر يهطل ، والقارئ يردد ” والآخرة خير لك من الأولى ” .
امرأة يصبِحُ الشباك بروازاً لجسدها ، شباكها في الطابق الخامس ، ليست طابوراً ، بيدها كأس تزتُّ ماءَه على أشجارِ حديقةِ الجيران ، من يدري من سكب الماء .. يدها أم الله ؟ …المطر يهطل …والمرتل يجوّدُ
” ووجدك ضالاً فهدى ” .
رجل وامرأة بقميص نوم ليس شفافاً ، تخرج للشرفة وبيدها صينية فليفلة حمراء ويلحقها زوجها بصينية أخرى ..يرتب البلكون لتتسع للصواني ولكرسيين وكأسي متة ، يضحكان ..يضحكان ! كيف هذا ؟
يضعُ ما بيده ويأخذ ما بيدها وهو ينحني أمام وجهها بشعرها المنكوش ..المطر يهطل …والقارئ يتلو ” وأما بنعمة ربك فحدث ” .
تابع القارئ في السّوَر القُصار ، السورة التي أحب ” ألم نشرح لك صدرك …”
رفعتُ الصوت حتى ملأ رأسي مع إيقاع المطر كنقر خفيف على الدّفّ و للقارئ صوتان ، مدّ وجزر ، جواب وقرار ، موج ورياح ، نهر ورمال ، أرض وسماء ، امرأة ورجل في عناق رحيل أم لقاء …المطر يهطل ..والقارئ يرتّل ” ورفعنا لك ذكرك ” .
امرأة مسنة ، مسرعة تسابق نظراتها خطوات قدميها ، عائدة من الفرن تحمل خبزها وتسقف وجهها بيدها …المطر يهطل .. والقارئ يعيد بجواب ” فإنّ مع العسر يسرا ، إنّ مع العسر يسرا ” .
المطر يهطل .. قلبي في هدأةٍ مطمئنةٍ ..و صوت القارئ إلى جوار قلبي يتلو ” وإلى ربك فارغب ” .