في البداية لا بد من تأكيد أني أستمتع بقراءة روايات أمين الزاوي. ففيها شيء غير موجود عند روائيين آخرين. هناك دومًا منطقة مجهولة في نفسية شخصياته، وفي زمن سرده. إضافة إلى النبرة الهادئة التي يكتب بها عن القضايا الخطيرة، مثل حرية الرأي، الدين، التاريخ، السياسة، الإلحاد… فهو يخاطب المتدينين بنبرة الملحد، وأمام الملحدين يبدو متدينًا. كاتب عانى الاضطهاد والتكفير… أمين روائي يقلّب وجوه القضايا ويبحث عن التوازن في رواياته، وكل روائي، في النهاية، هو باحث عن التوازن. وهذه بعض الوجوه: اللغة، الازدواجية، الاسم، النسب، النفس، السخرية، الغضب، التاريخ
تعطي رواية “شوينغوم” لأمين الزاوي انطباع أنها سيرة ذاتية، أو تخييل ذاتي. لكن، لأدع هذا التصنيف للنقاد الذين يهزمهم خيال النصوص ووقائعيتها وطبقاتها المختلطة بين السيري والتخييلي، والذين هم على استعداد لاعتبار حتى مواء القطة سيرة ذاتية
يثير الزاوي دومًا في رواياته مجموعة من الأسئلة الكبيرة (المتغطرسة أحيانًا): ما الرواية؟ ما الأسلوب؟ ما السرد؟ ما الحكاية؟ فغالبًا ما يكتب على طريقة المفكرين، ولا أقول على طريقة المؤرخين، لأن هذا النوع من الروائيين، الذين يريدون إضاءة الحقائق بالتاريخ، تناسل بشكل كبير، بل وأصبحوا يرسمون بداية أفول الرواية
”تعطي رواية “شوينغوم” لأمين الزاوي انطباع أنها سيرة ذاتية، أو تخييل ذاتي. لكن، لأدع هذا التصنيف للنقاد الذين يهزمهم خيال النصوص ووقائعيتها وطبقاتها المختلطة بين السيري والتخييلي، والذين هم على استعداد لاعتبار حتى مواء القطة سيرة ذاتية”
إننا ننتظر، بدون شك، جوابًا على سؤال: كيف يكتب أمين الزاوي على طريقة المفكرين؟ لنقرأ من الرواية (ص 10): “كنت أتمنى لو أنني لم أكن توأم أخي مصطفى، لأنني بصراحة لا أحبه. وربما لأنني لا أحبه فقد مات ولم يبلغ السابعة”
بما أن الناس يموتون من الحب أولًا، لذلك يمكن أن نقلب المعادلة، لتصبح هكذا: إن مصطفى قد مات لأنه يحب السارد، هامان بن زياد، وليس لأن هذا الأخير يكرهه فقط. لكن المؤلف ظل يقلّب وجه وفاة مصطفى طيلة صفحتين وأكثر، وكأنه يبحث عن حقيقة مفقودة في ذلك الموت المبكّر، عن نص مفقود في كتاب ضخم. ألم يقل فرويد “إن الطفولة نصّ مفقود”؟
لكن الأسئلة الفلسفية المتغطرسة تواصل تسرّبها بشكل غريب في تلك الصفحات: “حتى حين كبرت لم أقتنع أن أخي مات، ولم أصدّق أنه لم يمت” (ص 12)
علينا أن ننتبه إلى أن مثل هذه الأحداث لها طابع الواقعية. فهي تميل إلى الحدوث. كما أنها تجرنا بقوة إلى الأدب. فالخالة حاضرة في الأدب الجزائري والأدب العالمي، تعود بنا إلى “نجل الفقير” لمولود فرعون
إن ما يمكن أن نسميه “لحظات من الحياة” يشكل موضوعة مهمة في الأدب. وأمين هنا يوظف لحظات من منجم غني، من نص مفقود هو الطفولة. وليس ذلك من أجل الاستذكار فقط، كما يفعل كتّاب السيرة الذاتية الذين يرمون أمامنا بركام من الذكريات الخالية من الدلالة أحيانا، بل يفعل من أجل تقديم دلالة، أليغوريا. لنتأمل ما فعلته خالته صفية عمران بالديك حين ذبحته بدم بارد وهو مستغرق في نقر حبات الشعير، وما فعله الدجاج به حين لم ينتفض أو يسرع لإنقاذه، كما هي أليغوريا رواية “حديقة الحيوان” لجورج أورويل. انتفض الديك “في دمه وسط سرب الدجاج، الذي ظل ينقر حبات الشعير ويقايا الخبز اليابس وعجين النخالة بهدوء ولامبالاة” (ص 17)
ليس بعيدًا عن هذه الأليغوريا، التي هي بمعنى ما إشارة مزدوجة إلى وجود أو شيء أو كائن واحد، تفكك “شوينغوم” قضية الازدواجية. لقد هيأنا الروائي منذ البداية لتقبل هذا الأمر. فالتوأم هو ازدواج. وإنسان يكره الآخر الذي يحبه، هي مشاعر مزدوجة. فالخالة صفية اسمها الحقيقي في الأوراق الرسمية “رحمة”. وهي صفة مجردة منها، منذ أن ذبحت الديك. واسمها الآخر الذي اشتهرت به في القرية هو “صفية”. وهذا أمر لا يقضّ مضجع أحد رغم خطورته، رغم الشرخ الذي يحدثه وجوديًا بين الشخص والعلامة (الاسم) الذي تدلّ عليه. “زد على ذلك أن كثيرًا من أهالي القرية تعوّدوا على العيش بهناء وبشكل طبيعي في أسماء ليست بأسمائهم الرسمية، دون اكتراث أو انزعاج أو خوف من القانون عسكريًا كان أو مدنيًا” (ص 19). إن الأسماء أقنعة فقط وليست هوية أو علامة. إن التخلي عن الاسم وتعويضه، اختياريا، باسم آخر هو تمرد على السلطة البطريركية في المجتمع القديم. فالذي يطلق الاسم في الغالب هو الأب، وقد تكون الأم. لكن ما يهمنا في تغيير الاسم هو تمزيق هذه السلطة، لأن الشخص سابق عن الاسم. وإذا مزقت الاسم فكأنك تمزق حتى الأوراق التي تحتفظ به. وإن كل شخص يمتلك الحجج الدامغة لتغيير اسمه. فإذا كان اسمه “سعيد” وهو شقي في حياته فعليه تغيير اسمه. وإذا كان جبانًا واسمه أسد فعليه تصحيح الصفة/ العلامة/ الهوية. وإذا كان اسمها “رحمة” وهي قاسية فعليها تغيير العلامة/ الصفة/ الهوية. إن اتحاد الاسم والشخص يوتوبيا فقط لا تتحقق إلا في النزعة “الإسمانية” التي تؤكد على التطابق بين الاسم وحامله
”ليس بعيدًا عن الأليغوريا، التي هي بمعنى ما إشارة مزدوجة إلى وجود أو شيء أو كائن واحد، تفكك “شوينغوم” قضية الازدواجية. لقد هيأنا الروائي منذ البداية لتقبل هذا الأمر. فالتوأم هو ازدواج. وإنسان يكره الآخر الذي يحبه، هي مشاعر مزدوجة”
ما هو الاسم؟ يتساءل شكسبير في “روميو وجولييت”. وهو بذلك يلخص جوهر قضية شغلت اللسانيين والفلاسفة، وعلماء الإناسة وعلماء النفس
اسمنا الشخصي لا ينفصل عنا، إنه جوهر الشخص. يكفي نطق بعض الفونيمات، لتوضيح بعض المقاطع التي تبدو غير مهمة، بحيث أن مجرد ذكر اسم ما يوقظ الحب أو الكراهية، ويعيد ذكريات حزينة أو مبهجة، ويسبب مشاعر واضحة ومتميزة أو فوضوية ومرتبكة، تتعلق بالشخص الذي يحمل هذا الاسم. أدنى همس للاسم يمكن أن يجعل فتاة مراهقة يحمر خداها، وتضيء نظرة الطفل، وتثير دموع الأم، وتثير خفقان قلب حبيب، وإيماءات الغضب والاستياء من عدو، والاعتراف والامتنان للطالب لأستاذه. الاسم لا ينفصل عن الشخص ويعمل على تفرده. هذا بالضبط ما حدث للطفل هامان. لنقرأ: “من يومها (أي من يوم ذبح الخالة صفية للديك) كرهت خالتي صفية عمران، وبدأت أخاف منها وأشكّ في كلامها المليء بالعطف والحنان، ومن واقعة الديك هذه لم أعد أقف على عتبة الباب لمشاهدة منظر سرب دجاجها، ولم يعد صوتها وهي تردّد (كوت كوت كوت) يثيرني أو يدغدغ عواطفي، لم أعد أسمعه نهائيًا، مع أنها استمرّت في عادتها…” (ص 17)
ما أثار إعجابي أن السارد يجلس في مقهى “السينترا” بوهران ويبقى يدقق في صورة ألبير كامو المعلقة على جدار المقهى، ويجد السارد (وغالبا هذا رأي المؤلف) أن كامو يشبه والده
تبدو الأسماء الشخصية في “شوينغوم”، حسب تعبير تشارلز ساندرز بيرس، وهي تعمل بشكل جيد كعلامة مُمَيِّزة فارغة. حتى الأماكن لم تنجُ من ازدواجية الاسم، لنقرأ: “حين خطوت خارج بناية مسرح المدينة، شعرت براحة كبيرة، وعادت وتيرة أنفاسي إلى طبيعتها قليلًا، ابتلعتني ساحة “السلاح” كما يسميها أهالي المدينة، أو ساحة “أول نونبر” كما تسميها الحكومة…” (ص 30)
أشير في ختام هذه القضية إلى أن قدر هذه الرواية أن تكون مزدوجة العنوان، فقد نشرت في بيروت والجزائر تحت عنوان “شوينغوم”، وقريبًا ستصدر في المغرب بعنوان “هيت لك”
ليس الأشخاص فقط من يفقدون أسماءهم، بل حتى الأماكن والجغرافيات والبلدان والتاريخ. فشعوبنا تتغير بشكل مفاجئ، حسب السياسات التي تُرسم لها من قبل الحكومات، وحسب نوعية وقوة الثورات التي تقوم بها الشعوب
”لماذا يعود المؤلف لوقائع تاريخية؟ هذا سؤال مهم رغم بساطته الظاهرة. إنه يذكر العالم أن العرب حين يقومون بثوراتهم للانعتاق والتحرر ستتدخل القوات الأجنبية. وفي حالة الجزائر تتدخل أميركا في 1948 لتحرير الجزائر من ألمانيا”
يشعر المثقفون والكُتاب الجزائريون بالفخر بكون ألبير كامو ولد على أرض وهران. ويفاخرون الفلاسفة العرب بمحمد أركون. ترد عدة أسماء من هذا العيار في الرواية. لكن ما أثار إعجابي أن السارد يجلس في مقهى “السينترا” بوهران ويبقى يدقق في صورة ألبير كامو المعلقة على جدار المقهى، ويجد السارد (وغالبا هذا رأي المؤلف) أن كامو يشبه والده. لنذّكر هنا أن الكاتب الجزائري عبد القادر جمعي في روايته “زهرة على سطح البيت أو ماتيس في طنجة” (التي ترجمتها وستصدر قريبًا بتقديم رائع لأمين)، يرى أن ماتيس يشبه جدّه الوهراني هو الآخر. وتأمل صورة كامو يعود به إلى والده وهو ينصت لإذاعة صوت فلسطين، ثم، وبشكل تسلسلي، إلى الثورة الفلسطينية، وجبهات القتال
لماذا يعود المؤلف لوقائع تاريخية؟ هذا سؤال مهم رغم بساطته الظاهرة. إنه يذكر العالم أن العرب حين يقومون بثوراتهم للانعتاق والتحرر ستتدخل القوات الأجنبية. وفي حالة الجزائر تتدخل أميركا في 1948 لتحرير الجزائر من ألمانيا. لقد نزلوا في ميناء العاصمة وبوهران للقيام بهذا الدور التحريري التاريخي. لم تعد الجزائر مستعمرة لفرنسا الرأسمالية، وإنما أصبحت مستعمرَة للنازية من خلال تبعية حكومة فيشي للألمان. لكن سكان قرية بوزواغين لا يفهمون هذا المعجم السياسي الرفيع المستوى، رغم محاولات “موح البيسكليت”، السياسي المحنك بالقرية. فقرروا ترك قريتهم والابتعاد عنها طلبًا للنجاة. لكن موح أقنعهم بالبقاء ومتابعة الحياة في القرية. بل إن أمين الزاوي، وإمعانًا في إظهار جهل أهل القرية، قال إن هناك من اعتقد أن الأميركان جاؤوا لاختطاف خالته صفية، مثل اليمني ابن الإمام، الذي قيل إنه أصبح يبيت أمام عتبة بيتها ليمنع هذا الاختطاف. لكن الحرب لم تتم، والاختطاف لم يحدث، كل ما أثار إعجاب ودهشة أهل قرية بوزواغين هو العلكة الأميركية الشهيرة الساحرة شوينغوم التي جلبها معهم الجنود. وهذه أقصى درجات السخرية من الأوضاع المأساوية التي تحدث في بلدان العالم الثالث
شوينغوم” لأمين الزاوي.. رواية الازدواجية وربما التعدّد
شوينغوم” لأمين الزاوي.. رواية الازدواجية وربما التعدّد
مقال جديد وعميق للباحث والروائي: محمود عبد الغني – المغرب
(منشور في “ضفة ثالثة يوم 7 أكتوبر 2022
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- حديث الصفحات في كتاب “وطنٌ اسمه فيروز”
- قراءة في المجموعة القصصية (بكاء الشجر) للكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف يوسف
- ابعاد رواية “المسخ” لفرانز كافكا
- رواية النباتية (The Vegetarian) – للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ