رياض قاسم حسن العلي
على الرغم من أن هذه الرواية تنتمي الى مايسمى بالرواية داخل الرواية وهو اسلوب صار تقليدياً لكثرة ماكتب فيه الا أن رواية جابر خليفة جابر مختلفة ويمكن عدها اسلوب جديد في الرواية العراقية سواء بمضمونها الثري جدا او من خلال العتبات الخمس التي لا يمكن فهم الرواية الا باستيعاب ماورد فيها،وأقول خمس لأن القسم الاول الذي يمتد من الصفحة 17 الى صفحة 37 هو عتبة خامسة مهمة جدا كسابقتها، وهذه العتبات من الكثافة والعمق بحيث يتطلب قراءتها اكثر من مرة قبل الدخول الى الرواية والكاتب مزج بين الواقع التوثيقي ومقدمات الكتب وبين الخيال المكثف حتى انه ادخل نفسه في صميم هذه العتبات ،فعلى خلاف رأي فولتير الذي يقول أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون: حاضر غائب كان جابر خليفة جابر حاضراً وبقوة.
لكن الكاتب لم يكتف بهذه العتبات فادرج في نهاية الرواية في القسم الثالث بدليل الاسر والاشخاص كأنه يريد أن يقدم لنا مخططه الاولي لتلك الرواية او اراد أن يهدينا ملخص لما قرأناه وهو بذلك يمنح روايته الشكل المميز الذي اراده والذي يقربها من روايات مابعد الحداثة أن لم تتخطاها.
وفيما يتعلق بالخط الزمني نلاحظ استفادة الكاتب من طريقة سرد التوقع الفعلي خاصة في العتبات الآنفة الذكر، فهذه العتبات مختلفة الزمن مما اعطى دافع من التشويق لدى القارئ يمكنه الدخول الى الرواية وهو يحمل اعتقاد انه امام رواية مختلفة وهي كذلك.لكنه تدرج في الزمن السردي بشكل خيطي لكن ليس على الدوام وهذا السرد الخيطي منح القارئ راحة ذهنية وفي نفس الوقت فأن هذا التدرج الزمني مهم جداً لرواية تتحدث عن سير اشخاص وعوائل.
ومنذ اللحظة الاولى على القارئ ان يتجهز لأن الكاتب سيأخذه في رحلة طويلة فيها الكثير من الامكنة والشخصيات والتفاصيل الدقيقة والتشظي بكل سلاسة وبسرد ممتع يشد القارئ بدون أن يشعر بأي ملل او رغبة في ترك الرواية لكن مع ذلك يتطلب منه قراءة متأنية لرواية ذكية جداً لم يكتبها الكاتب -على مايبدو- بأستعجال فهو شديد العناية بكل تلك التفاصيل وهي الطريقة التي يمكن ملاحظتها في أعمال الكاتب الاخرى ك( ساعة آمنة) على سبيل المثال ، فالتشظي الذي تميزت به الرواية وظفه الكاتب في سياق الرواية والاحداث لذلك لم تكن فيه شخصيات شبحية او ضبابية او احداث لا معنى لها بل ان كل شخصية مهما كان حضورها بسيطاً قد عنيت من الكاتب بما تستحقه من اهتمام وكل حدث له ارتباط بباقي الاحداث.
قسم الكاتب الرواية الى ثلاث اقسام اضافة الى العتبات الاربع التي ذكرناها ويمكن عد القسم الاول كما قلنا العتبة التمهيدية التي من خلالها تتحدث نور عن جزء من سيرتها وعن كتابتها لروايتها ثم ينتقل الكاتب الى القسم الثاني وهو رواية( آنوش) والذي سيقسمها بدوره الى اقسام او اضابير كما يسميها وهي العمود الفقري والاساس للرواية.
وتبدأ الاحداث القديمة من القرن السادس عشر أبان أنتشار الطاعون في مدن العراق ومنها البصرة في بداية القرن السادس عشر الميلادي بحسب رواية سهيلة ولكون الرواية تتناول حقبة زمنية معينة فأن الكاتب استغل بعض الشخصيات والاحداث التاريخية الحقيقية ليستثمرها في السرد لكن هي ليست رواية تاريخية بقدر ماهي سيرة اشخاص ارتبطوا كلهم بمكان واحد.
ونحن نحتاج في الكثير من الاحيان الى معرفة عدد من الاسرار التي تغيب عنا لأننا لم نبحث جيداً ولم نقوم بحفريات في طبقات الذاكرة وهذا مافعله جابر خليفة جابر في هذه السردية الباذخة لذلك يمكننا ان نقول مع عدن افندي حينما اخبره علي زمان بسر الفتاتين : ( الان عرفت سر الانگر) ويمكن القول ان هذه الرواية تنتمي الى روايات التحري لكن ليس بطريقة بوليسية وانما بطريقة الحكايات المتوارثة التي تنتقل من جيل الى اخر والتي من خلالها يمكن حل الكثير من الالغاز وربما في هذه الحكايات الكثير من الاضافات التي اعتادت مخيلة الانسان على اضافتها في روي القصص او كما ورد في مفكرة ( اشرقت) ان مرويات سهيلة ( هي حكايات شفاهية متوارثة ابا عن جد وتعتز بما في حوزتها من حكايات قديمة ولا تهتم لغيرها) لكن في بعض المرويات الاخرى الرجوع الى الوثائق التي تدعم مصداقيتها كسرد وليس حقيقة وأن كان الكاتب قد جمع بين التاريخ والخيال وهذا يحسب له فأنه لم يقم بلوي الحقيقة التاريخية وانما استفاد منها وجعل منها صناديق للحكايات.
والكاتب استخدم التنوع الصوتي لسرد الاحداث مما حقق توازن سردي ساعد على سير الرواية بدون اي خلل وهذا التعدد الصوتي ظهر خاصة في القسم الاول بينما هيمن صوت سهيلة في القسم الثاني مع بعض التغيير.
وتميز اسلوب الكاتب بالبساطة والوضوح وهو ما يتناسب مع الشخصيات الروائية التي يتناولها فلم يكن متكلفاً او متحذلقاً بل يمكن القول ان جمال وبراعة الرواية يكمن في هذا التوفيق بين احوال الشخصيات وسرد الحكاية على لسان الشخصيات ، واعتقد ان الكاتب كان واقعاً في دائرة سحر حكايات الف ليلة وليلة لذلك جاءت سرديته على درجة كبيرة من القبول ،( تأثرت بالحكاية.. وأنت مابك ايضاً؟ هل اتوقف عن الحكايات؟ صحنا معاً : لا لا ) ص 158 فكما تأثر شهريار بحكايات شهرزاد كان سلام واشرقت تاثرا بحكايات سهيلة المؤلمة والجميلة في نفس الوقت ( إن كنز الحكايات هذا من خيال ذاكرتي أنا ومن احلامي وانا يقظة وفي تمام الصحو) ص 182 كما على لسان آنوش صانعة الحكايات الكثيرة …سحر الحكاية الذي لا ينتهي وهو ذكاء ووعي من الكاتب كما لا يخفى، واقول ان من الصعب على اي روائي ان يجمع في روايته كل تلك الشخصيات والامكنة والاحداث لكن جابر فعلها ونجح وخلق لنا رواية عراقية بأمتياز والكاتب سيطر بشكل ماهر على شخصياته واحداثه فلا يعثر القارئ على اي تباين او اختلاف او تناقض وهذا يدل كما اسلفنا ان الكاتب كان يعمل وفق مخطط صارم وبالتأكيد أن هذا المخطط كان صعباً ومرهقاً لذا فأن القارئ سيجد أمامه رواية محبوكة بإتقان.
هذه الرواية تستحق على اقل تقدير الفوز بالبوكر العربية والوصول الى العالمية لأن مستوى بعض الروايات التي فازت بهذه الجائزة أقل بكثير منها ولست ابالغ اذا قلت بأني شعرت بالفخر والاعتزاز بأني اقرأ رواية عراقية بهذا المستوى الباذخ والاشتغال المعتنى به والشكل الجديد الذي لم يشهده السرد العراقي سابقاً وأعتقد جازماً بأن رواية ( نور خضر خان) ستكون محطة مهمة في تاريخ الرواية العراقية ومنعطف مهم بعد سنوات طويلة من الخذلان والاعمال التي تسلق سلقاً وبهذه الرواية أثبت جابر مرة اخرى بأنه معلم كبير في السرد يجب ان يحتذى به.
ملاحظات/
1- ذكر الكاتب في صفحتي 22 و 155 معلومات عن طائر ابو منجل في مدينة اورفا او الرها ولهذا رمزية عالية حيث ان هذه المدينة وبالتحديد بلدة بيريجيك تستقبل كل موسم تلك الطيور قادمة من فرات سوريا كما هاجر سكان اورفا الى الجنوب بسبب سياسة التتريك الاتاتوركية وثمة تمثال لطائرين في احد الساحات هناك.
2- ورد في صفحة 21 ان خاجيك جاء الى لندن في يناير 2020 لكن في صفحة 33 كانت الزيارة في اواخر سنة 2018 وهو خطأ مطبعي واضح.
3- ورد في صفحة 50 اشارة الى الزمن الروائي وهو بعد 2003 وفيه اشارة الى حي الارمن او ( كمب الارمن ) كما يسميه اهل البصرة والذي كان يقع قرب ساحة عبد الكريم قاسم حالياً واعتقد ان هذا الحي قد اختفى قبل ذلك التاريخ ان لم اكن مخطأ الا اذا كان الكاتب يشير الى مكانه القديم ليس الا.
4- ورد في الرواية تفاصيل كثيرة عن المير بدر المهنا وهو الامير مهنا بن ناصر الصعبي حاكم جزيرة خارج التي تقع في الخليج العربي والمولود سنة 1735والمقتول سنة 1769 وللشيخ سلطان بن محمد القاسمي لقبه بالأمير الثائر في روايته الأمير الثائر أطلق عليه الإنجليز لقب رئيس قراصنة “ريق”.نسبة الى بندر ريق او ريج الذي يقع شمال بوشهر ولهذه الامارة قصة طويلة.
5-في عموم النص نجد الماء والغرق والدمى والقبور والكاتب وظف ذلك بما يخدم السرد.
6- اعتقد ان دار زمان يرمز الى الوطن وكيف انه صار مطمع للجميع وقبراً حقيقياً ورمزياً لاصحابه ويقول الكاتب في صفحة 242 : ( دار زمان معروفة بتعايش اهلها وهم من اجناس والوان متنوعة متآلفين متحابين …فمن المتسالم عليه أن اهل دار زمان لايهتمون اطلاقاً لموضوع الطائفة وهم اصلاً من اعراق مختلفة ومن اكثر من دين وطائفة).
7- اشار الكاتب في صفحة 153 الى عصابة الهاشناك وهو حزب حزب سياسي ديمقراطي اجتماعي ذو اتجاه يساري، أسسه مجموعة من الطلبة الأرمن سنة 1887 في جنيف وذلك من أجل نيل أرمينيا استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية في ذلك الحين وقد تحدث الكاتب عن الابادة الجماعية التي تعرض لها الارمن في بداية القرن العشرين على يد الاتراك ومعاناة السبايا والاسرى.
8- اشار الكاتب كثيراً الى نهر العشار الذي يصل الى منطقة نظران وهو نهر تم حفره سنة 1878 في عهد الوالي محمد هدايت كما تذهب بعض المصادر التاريخية وثمة من يربط بين هذا النهر ونهر الابلة المذكور في كتب التاريخ وان الوالي هدايت في الحقيقة لم يحفر النهر وانما قام بتوسعته وتعميقه لخدمة الطبقة الغنية من التجار والاثرياء والمتنفذين الذين كانت قصورهم تقع على ضفتيه.
9- ذكر الكاتب في صفحة 218 حادثة قتل زعفران من قبل احد الجنود الهنود ( الكركة ) وهي حادثة حقيقية لكن لا احد يعرف قصتها ومن اين جاءت تماما، وجدوها هكذا وحيدة بلا زوج ولا عائلة ولا اولاد ..تسكن في زاوية متداعية و منسية من محلة البجاري كما يذكر علي ابو عراق